تحتل الدراسات الاستشراقية حيزاً واسعاً في مجال الدراسات العربية والإسلامية. ولهذه الدراسات أهميتها وثقلها العلمي في الدوائر العلمية، ولا تكاد دراسة علمية تخلو من الإشارة إليها . ولقد عملت هذه الدراسات منذ وقت مبكر للغاية على تشكيل العقل الغربي، وتحديد موقفه تجاه الإسلام، بحيث يمكن القول إن الموقف الغربي تجاه الإسلام هو في نهاية المطاف موقف الاستشراق ذاته من الإسلام. والاستشراق كما ورد فى أحد تعريفات د. إدورد سعيد هو نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق.
ويعود تاريخ العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب إلى عصور بالغة القدم ، غير أن هذه العلاقات شديدة التشابك والتعقيد. ويمكن القول إن هذه العلاقات تختلف درجاتها بين التعاطف والتنافس والانجذاب والتباعد ومحاكاة النموذج الآخر أو البحث عن نقيضه، ولكنها لا تجنح أبداً إلى التجاهل والتغافل.
ويرى الباحث (برنارد لويس) أن حدود الدراسة الاستشراقية أوسع بكثير من حدود دراسة الأدب العربي والإسلام ، فيقول : كانت كلمة الاستشراق في الماضي مستخدمة بمعنيين اثنين: المعنى الأول كان يدل على مدرسة في الفن ، وعلى مجموعة من الفنانين ترجع أصول معظمهم إلى أوروبا الغربية والذين كان من أبرزهم على سبيل المثال الفنان الفرنسي (ايميل فيرنيت لاكومت )( 1821-1900). وكانوا عبارة عن رحالة إلى الشرق يقيمون لفترة من الزمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويرسمون ما يرونه أو ما يتخيلونه، وكانوا يفعلون ذلك بطريقة رومانسية وغرائبية مدهشة. أما المعنى الثاني فهو الأكثر شيوعاً ولا علاقة له بالأول، ويعني اختصاصاً علمياً شديد الارتباط بدراسة اللغات غير الأوروبية.
وفي مقابل هذا التعريف الذي طرحه (برنارد لويس) فقد طرح الباحث إدوارد سعيد رؤية أكثر عمقاً للاستشراق، حيث رأى أن لمفردة الاستشراق ثلاث دلالات هى:
- الأولى : جامعية أكاديمية ، فكل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو بحثه فهو مستشرق وعمله هو استشراق ، سواء أكان المرء مختصاً بعلم الإنسان أم بعلم الاجتماع أم مؤرخاً أم فقيه لغة.
- الثانية : أكثر عمومية من الأولى من حيث هى أسلوب من الفكر القائم على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب.
- الثالثة : وهى أن الاستشراق أسلوب غربي يهدف إلى السيطرة على الشرق وبسط السيادة عليه .
وتوحي هذه الدلالات الثلاثة التي أقرها إدوارد سعيد أن الاستشراق يعد نتاجاً معرفياً لأنشطة القوى السياسية المختلفة المعنية بدراسة مختلف المكونات الثقافية للشرق بغرض السيطرة والهيمنة عليه.
ولا يمكننا بطبيعة الحال فهم طبيعة الدراسات الشرقية والإسلامية في إسرائيل دون التعرف على الخلفية التاريخية لهذه الدراسات ودوافعها. وتعد دراسة اللغة العربية والإسلام في إسرائيل من أقدم الظواهر المرافقة للمشروع الصهيوني منذ نشأته، بل ويمكننا القول إن الاهتمام باللغة العربية كان وثيق الصلة برؤية المشروع الصهيوني بتياراته المختلفة لمستقبل الوجود اليهودي في فلسطين.
وقد كانت اللغة العربية تدرس قبل ظهور المشروع الصهيوني في فلسطين في معظم المدارس السفاردية (أي الخاصة باليهود الشرقيين). وكانت الأكاديمية الدينية "عيتس حاييم" التي درس فيها الباحث (ديفيد يلين) - الذي تخصص في دراسة فضل الحضارة العربية الإسلامية على الثقافة اليهودية في العصور الوسطى - من أبرز هذه الأكاديميات الدينية. وكانت اللغة العربية تدرس أيضاً بمعدل ست ساعات أسبوعياً في مدارس الاليانس اليهودية التي تأسست في فلسطين خلال منتصف القرن التاسع عشر.
ومع تدفق الهجرات الصهيونية إلى أرض فلسطين فقد تباينت مواقف المستوطنين الأوائل بين مؤيد ومعارض تجاه تدريس اللغة العربية، فبينما عارض كل من (احاد هعام) (1856-1927) و (يوسف كلاوزنر) ( 1874- 1958) تدريس اللغة العربية فقد أبدى كل من (إسحق ابشتاين)(1863-1943) و(يهودا ليف ماجنيس)(1877- 1948) اهتماماً كبيرا بتدريس اللغة العربية. وكان هذا التباين في المواقف تجاه تدريس اللغة العربية وثيق الصلة برؤية التيارات الصهيونية المختلفة لمستقبل الوجود اليهودي في فلسطين. وقد كان من الطبيعي حقاً أن يتبنى (ماجنيس) موقفاً مؤيداً تجاه تدريس اللغة العربية للطلاب اليهود خاصة أنه كان من أتباع منظمة (بريت شالوم) التي عارضت قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1947 والتي أيدت في المقابل إقامة دولة ثنائية القومية في فلسطين.
ويرجع إلى (ماجنيس) فضل تأسيس مدرسة الدراسات الشرقية بالجامعة العبرية بالقدس، هذه المدرسة التي عكفت خلال رئاسته للجامعة على دراسة التراث العربي، ومن هنا فقد تم البدء في عهده في إعداد المعجم المفهرس للشعر الجاهلي. ومع هذا لم يدم الاهتمام بالدراسات العربية الكلاسيكية طويلاً، إذ سرعان ما تعالت تلك الأصوات التي اتهمت (ماجنيس) بتبنيه موقفاً رومانسياً غير مسئول تجاه الواقع. وتم التعبير عن هذا الموقف في التقرير الذي شكلته الجامعة لتقييم أداء مدرسة الدراسات الشرقية فجاء بالتقرير : " بالرغم من خطورة دمج السياسة بالتعليم إلا أنه من الواضح أن العرب لن يغيروا مواقفهم تجاه المسألة اليهودية بسبب إعداد الجامعة العبرية لمعجم مفهرس للشعر الجاهلي، ولهذا يوصي التقرير بقيام مدرسة الدراسات الشرقية بتعديل مناهجها البحثية والدراسية حتى تتضمن دراسة المشرق الحديث. وبالرغم من اعترافنا بأهمية دراسة الماضي إلا أننا نصر على دراسة الحاضر. ويجب أن يتم الاهتمام بدراسة العربية المعاصرة".
ويتضح مما تقدم أن هذا التقرير حث على تقويم المسار الدراسي بمدرسة الدراسات الشرقية حتى يكون متوائماً مع احتياجات إسرائيل الأمنية. وبالرغم من أن هذا التقرير أشار في بدايته إلى خطورة ربط السياسة بالتعليم إلا أن العملية التعليمية في إسرائيل تعد في حقيقتها عملية سياسية الغرض منها خدمة المؤسسة الأمنية.
وفي حقيقة الأمر فقد آمنت الصهيونية منذ نشأتها بأهمية الاستشراق وعملت على استقطاب المستشرقين لخدمة مصالحها. من هنا فقد سعت إلى استقطاب المستشرق اليهودي المجري (ايجناز جولدتسهير)(1850-1921) المتخصص في الدراسات الإسلامية وتكليفه بتمثيلها في بعض اللقاءات مع عدد من المفكرين العرب الذين كانوا يكنون له كل تقدير غير أنه أبى أن يتعاون مع الحركة الصهيونية، كما رفض الهجرة من المجر إلى فلسطين . وقد عبر (جولدتسهير) في سيرته الذاتيه عن رفضه للهجرة بقوله " إن اليهودية مجرد ديانة ولا علاقة لها بالعرق أو بالقومية ".
وبالرغم من عداء (جولدتسهير) للصهيونية إلا أن هذا الأمر لا ينفي أنه آمن بإمكانيات التعايش بين اليهود والعرب ، فجاء في مذكراته " أنه يأمل أن يأتي اليوم الذي يتعايش فيه اليهود والعرب في وئام وسلام وأن يتعاونوا من أجل بعث إسرائيل والشعوب العربية ". وجاء أيضاً فى أحد خطاباته - التى بعث بها إلى إحدى الشخصيات العربية التى التقى بها فى أوروبا - الآتى " وعند عودتك إلى ديارك فلتخبر الجميع أني قضيت كل حياتي من أجل شعبك ومن أجل شعبي " .
ومع وفاة (جولدتسهير) في عام 1920 حرص عدد من قادة الحركة الصهيونية وبإيعاز من (لودفيج باتو) أحد قادة الحركة الصهونية على إقناع (حاييم وايزمان) (1874-1952) رئيس المنظمة الصهيونية العالمية باقتناء المكتبة الخاصة بـ (جولدتسهير) - التي كانت تضم ستة آلاف كتاب - وإهدائها إلى الجامعة العبرية بالقدس التي تم افتتاحها في عام 1925.
وقد اهتمت التيارات الصهيونية المختلفة بالدراسات الاستشراقية، ومن هنا فقد اهتم (ارثر روبين )(1876-1943) قائد منظمة (بريت شالوم ) الداعية إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيين بدعوة المستشرق اليهودي (يوسف هوروفيتس)(1874-1931) إلى القدس للتعرف على رؤى العالم العربي للصهونية. وذكر (هوروفيتس) خلال لقائه بـ (روبين) " إن المفكرين المسلمين الذين التقى بهم فى القاهرة لا يرحبون بوعد بلفور".
ويعد الباحث (شلومو دوف جويتين)(1900- 1985) - والذى تلقى تعليمه على يد المستشرق (يوسف هوروفيتس) - من أبرز المستشرقين اليهود ارتباطاً بالحركة الصهيونية. وقد حصل (جويتين) في عام 1923 على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، وكان موضوع رسالته للدكتوراه عن مفهوم الصلاة فى القرأن الكريم. وقد هاجر في ذات العام إلى فلسطين حيث استقر في القدس، والتحق في عام 1927 بالجامعة العبرية فى القدس ليشغل وظيفة أستاذ للدراسات العربية والإسلامية. وقام خلال عمله بالجامعة بتحقيق كتاب أنساب الأشراف للبلاذري وهو مكون من خمسة مجلدات.
ولم يقتصر نشاط (جويتين) على دراسة التراث العربي الإسلامي فقط، وإنما عمل على دراسة اللهجات العربية أيضاً، حيث شغل خلال أعوام (1938- 1948) منصب المفتش العام للتعليم فى حكومة الانتداب البريطانى فى فلسطين، إذ قام بإعداد محتوى الكتب الدراسية والمناهج التعليمية لفلسطين خلال فترة الانتداب.
وقد تجسد اهتمام المشروع الصهيوني بالدراسات العربية الإسلامية في تأسيس إسرائيل للعديد من أقسام اللغة العربية بكليات التربية، وذلك لإعداد مدرسين إسرائيليين متخصصين في تدريس اللغة العربية. ومن بين أبرز هذه الكليات كلية بيت بيرل، وكلية ليفنسكي وكلية الكتلة اليسارية. وسنلقي في هذا المجال الضوء على هذه الكليات وطبيعة المحتوى الدراسي المعتمد بها.
1- كلية بيت بيرل:
تتبع هذه الكلية حزب العمل الإسرائيلي، وهى من الكليات الأكاديمية المتخصصة في إعداد المدرسين التربويين، وبها قسم للغة العربية. ويعد الباحث (عامي العاد) من أبرز باحثيه. ويهدف برنامج اللغة العربية بهذه الكلية إلى إكساب الطالب معرفة وظيفية باللغة العربية المعاصرة على نحو يؤهله لإتقان المهارات اللغوية الأربعة وهى الاستماع والحديث والقراءة والكتابة. ويدرس الطالب أيضاً بالقسم تاريخ الشعوب الإسلامية والإسلام وثقافته والأدب العربي المعاصر. ويحصل الطالب الذي يلتحق بهذا القسم على شهادة البكالوريوس في علوم التربية من قسم اللغة العربية.
ولا تقتصر الدراسة بالقسم على الجانب النظري، إذ يقوم القسم بتنظيم رحلات للطلاب لزيارة المعالم الإسلامية بغرض الاحتكاك بالمجتمع العربي في إسرائيل للتعرف على اللهجة الفلسطينية. وينظم القسم أيضاً رحلات دراسية لطلابه لزيارة إحدى الدول التي تشكل ركناً هاماً في صرح الثقافة العربية والإسلامية مثل الأردن ومصر وتركيا.
وتتبع الكلية مدرسة للترجمة عن العربية وإليها ولا يلتحق بها سوى الطلاب المتمكنين من اللغة العربية، وتمنحهم هذه المدرسة شهادة في الترجمة.
وفي ختام الحديث عن هذه الكلية يجب أن نميز بينها وبين المعهد الأكاديمي العربي التابع لكلية (بيت بيرل)، حيث إن هذا المعهد خاص بإعداد المدرسين من عرب إسرائيل المتخصصين في تدريس اللغة العربية. ولهذا المعهد نشاط ملموس في مجال الدراسات العربية، فتصدر عنه مجلة الرسالة المتخصصة في دراسة التراث العربي.
2- كلية ليفنسكي:
تقع هذه الكلية في تل أبيب، وهى واحدة من أقدم كليات التربية في إسرائيل، إذ أسستها جماعة " أحباء صهيون " في عام 1921. وتحمل هذه الكلية اسم ليفنسكي تخليداً لذكرى الصحفي والأديب (الحنان ليفنسكي)(1857–1911). وتعد هذه الكلية واحدة من أقدم الكليات المتخصصة في إعداد المدرسين المتخصصين في تدريس اللغة العربية. ويعمل قسم اللغة العربية بالكلية على إكساب طلابه أسس اللغة العربية. ولا يشترط فى هؤلاء الطلاب أن يكونوا على معرفة مسبقة بتلك اللغة.
3- كلية الكتلة اليسارية:
تقع هذه الكلية في تل أبيب كذلك، وهى تابعة لحزب "حداش" ذي التوجهات اليسارية. ويعمل قسم اللغة العربية بالكلية على إكساب طلابه أسس اللغة العربية، كما يهتم بتدريس اللهجة الفلسطينية.
وبالإضافة إلى هذه الكليات الأكاديمية المتخصصة في تدريس اللغة العربية والإسلام للباحثين الإسرائيليين فقد تأسست في إسرائيل منذ عام 1949 الجمعية الإسرائيلية لدراسات الشرق الأوسط والإسلام. وتصدر عن هذه الجمعية دوريات متخصصة باللغتين العبرية والإنجليزية في الدراسات العربية والإسلامية. وترتبط هذه الجمعية ارتباطاً وثيقاً بجهاز الموساد الإسرائيلي وبمختلف المؤسسات الأمنية الإسرائيلية.
وعند النظر في طبيعة الدراسات العربية الصادرة عن المؤسسات الاستشراقية الإسرائيلية نجد أن هذه الدراسات تختلف إلى حد كبير عن الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التي اهتمت بدراسة الكثير من نصوص التراث العربي وترجمتها وتحقيقها، حيث تهتم هذه الدراسات بدراسة الواقع العربي الإسلامي المعاصر. ومن هنا تلقي الدراسات الاستشراقية المعاصرة الضوء على وضع المرأة المسلمة ومظاهر اختلافها عن المرأة الغربية كما تهتم بدراسة رؤى الفقهاء والمشايخ للأحداث الراهنة وتحليلها.
ولا تقتصر حدود النشاط الاستشراقي في إسرائيل على الجامعات وإنما يمتد ليشمل المستوطنات، ومن ثم فقد أسست مستوطنة (اريئيل) مركزاً للبحوث السياسية. وعند تصفح قائمة الدراسات الصادرة عن هذا المركز نجد أن الدراسات الإسلامية تشغل حيزاً كبيراً من الاهتمام . ولعل إحدى الدراسات التي يثير عنوانها الانتباه بشكل خاص، تلك الدراسة التي أعدها المستشرق (دافيد بوكعي) بعنوان: " سلام مكة أو جهاد الدولة : الناسخ والمنسوخ في الإسلام ". فعند مطالعة هذه الدراسة يجد المرء أن البحث يقوم على التدليس وسطحية المعالجة، حيث يحرص المستشرق على استغلال عدم معرفة أولئك الذين يطلعون على هذه الدراسة بالدين والفقه الإسلامي واللغة العربية وفقهها، لكي يحولها إلى مجرد لائحة اتهام طويلة للإسلام، حيث يحاول إثبات أن الإسلام هو دين إرهاب وقتل.
ويتضح من هنا أن البحوث الإسرائيلية التي تهتم بدراسة الإسلام تعمل على تشويهه وتقديمه في صورة تثير الفزع في ذهن القارئ الإسرائيلي من العقيدة الإسلامية وممن يؤمنون بها.
