موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية انعكاس قضايا الفكر العربي والإسلامي في تفسير سعديا جاءون للتوراة - قضية الذات الإلهية وصفاتها

انعكاس قضايا الفكر العربي والإسلامي في تفسير سعديا جاءون للتوراة - قضية الذات الإلهية وصفاتها

 

أولاً: الذات الإلهية

إثبات الوجود الإلهي

هناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تدعو العقل الإنساني إلى التفكر في وجود خالق مسئول عن عملية خلق الكون، ومن ذلك قوله تعالى: "أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ"[1] ومن هنا كانت قضية إثبات الوجود الإلهي قضية محسومة عند مفكري الإسلام ومفسريه، ولكن كانت قضيتهم الأولى هى إثبات الوحدانية لله وحده؛ لأنها تتضمن في داخلها التأكيد على الوجود الإلهي، وذلك لأن إنكار الوجود الإلهي لم يكن مذهباً شائعاً بين مفكري الإسلام في تلك الفترة، وحتى من أنكر وجود الله لم يكن لديه دليل على ذلك، ذلك أن القرآن الكريم يؤكد أنه حتى الذين ينكرون الوجود الإلهي في قرارة أنفسهم وفي شعورهم الباطن يقرون بوجوده، لأن ذلك أمر فطري مغروس في النفس البشرية منذ أخذ الله على الناس العهد والميثاق كما في قوله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "[2]. كما استند مفكرو الإسلام ومفسرو القرآن إلى أدلة أخرى كثيرة، إلى جانب الأدلة التى قدمها القرآن الكريم، منها الخلق والعناية والقدم والتمانع.

    وهذه الأدلة تفتقر إليها أسفارالعهد القديم، وحتى لو كانت هناك إشارات عابرة لها، فإنها لم تكن تستخدم كدلائل لإثبات وجود الخالق ووحدانيته، كما لم يتم طرحها على بساط البحث الفكري. فدليل الخلق مثبت ولا يمكن إنكاره في العهد القديم[3]، ولكن أدلة مثل القدم[4] لم تعرف من قبل لأن البحث في الصفات الإلهية أمر جديد على اليهودية، التى لم تتطرق إلى مسألة القدم والحداثة إلا مع ظهور التيارات التى نادت بذلك في الإسلام، أما العناية كدليل لإثبات وجود الخالق، فهى دليل ناقص في العهد القديم وكتب المدراشيم لأن هناك من ربط بين انقطاع النبوة في بني إسرائيل وبين انقطاع الرعاية من الله لبني إسرائيل[5]، وكذلك فإن علاقة هذا الرب ببني إسرائيل علاقة مادية كملك وشعبه، لذلك هو مجبر على الدفاع عنهم ضد أعدائهم سواء أكانوا على حق أم لا[6]. كما أن هذا الدليل يُدحض في كتب الأجاداوت عندما يتسبب الرب في تشتت شعبه المختار ويغضب عليهم ويسلط عليهم الأمم[7]، وكذلك دليل التمانع غير متوافر لأن العهد القديم كما قدم صورة الإله الواحد بعد الوثنية وتعدد الآلهة، قدم الصورة الأخرى، وهى صورة الإله الواحد القومي الخاص ببني إسرائيل فقط[8]، فصورة التوحيد التى قدمها العهد القديم لم تأتِ من خلال الإقرار بالوحدانية وإنما جاءت من خلال أحد الوصايا العشر التى أمرت بعدم عبادة آلهة أخرى (وكأنه هناك آلهة أخرى)  وأن هناك مقارنة بين هذه الآلهة[9]. كما وجدت صورتان للإله في العهد القديم، الإله العام المتحكم في كل الشعوب، والإله القومي الخاص بشعب إسرائيل، حيث إن الإسرائيلي القديم كان يشعر أنه لا يستطيع أن يعبد إلهه خارج ضيعته[10]، وهو ما دفع سعديا إلى الاهتمام بهذه المسألة وطرحها في تفسيره لسفر التكوين لتقديم صورة أشمل وأعم للذات الإلهية لتأكيد وحدانيتها وتنزيهها.

    ويرى سعديا أن دليل وجود الله في العالم يتمثل في وجود الأشياء حولنا فوجودها يعنى أن هناك من خلقها فيستحيل أن تكون صنعت نفسها. يقول سعديا : " ومما وجد له في تفسير هذه אלפרשה (القضية) قوله لنا إنا إذا رمنا نتوهم أن الأشياء أحدثت نفسها فلا يخلو عندنا من أن تكون صنعت نفوسها قبل وجودها أو بعد، فإن توهمنا أنها خلقت نفسها من قبل أن تكون فما هو معدوم لا يخلق شيئاً وإن ظننا أنها صنعت نفسها بعد ما كانت فقد استغنى بسياق كونها أن تصنع نفسها فضرورة نعلم أن غيرها أحدثها".[11]

    ويؤكد سعديا هذا الدليل بدليل آخر في رده على الدهريين بخلق الزمان والمكان فيقول: " وينصرف إلى الدهريين[12]... إذ يدفعون الحجة الصحيحة ويقبلون الدعاوى المظلمة. فالأولون يقولون لا يجوز أن يكون شىء لا من شىء ويجوز أن يكون المكان والزمان والمتمكن مادين بلا نهاية، والأمر بعكس ذلك لا يجوز أن يكون الزمان والمتمكن غير متناهين ويجوز أن يكون شىء لا من شىء كما شرحت في سفر בראשית (التكوين)"[13]

    وقد اعتمد مفكرو الإسلام على القرآن لإثبات الوجود الإلهي، كما اعتمدوا على أدلة الواقع الخارجي، لأن القرآن أنهى هذه المسألة بتوجيه عقول البشر للنظر في المخلوقات ليرى العقل فيها الأدلة والبراهين على وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك ليس من المعقول أن يكون هناك خلق دون خالق، لذلك كانت الآية القادمة من أقوى البراهين العقلية التى يضعها القرآن الكريم أمام العقل المنكر، قال عز وجل" أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ "[14]. فسبحانه وتعالى ذكر الدليل في الآية بصيغة استفهام الإنكار ليبين أن هذه القضية التى استدل منها فطرية بديهية مستقرة في النفوس لا يمكن لأحد إنكارها.[15]

    أما الدليل الآخر الذى يدل على وجود الخالق، فهو دليل العناية، فانتظام العالم ودوران شئونه بمنتهى الدقة يدل على أن هناك منظما لشئون هذا العالم وأن اختلاف الأشياء وكمال الخلق دليل على وجود الخالق. يقول سعديا : " إلا البارئ ابتدعا (ابتدع) فكما شا (شاء) الله كون النبات كانت الأشيا (الأشياء) المختلفة في صورها في الطول والعرض والاستدارة، والمختلف مقاديرها من شجر.. والمختلفة ألوانها وطعومها والمختلف زمان نموها..وكان ذلك كله في إبدع وقت على تمامه لمصلحة الناس ومنافعهم.. فإنه تعالي أوجدهما على صفة الكمال ... يريدو (يريدون) به كمال الخلقة.. وكما أوجبت الحكمة إنما أوجده على كمال.. وما أوجبت الحكمة أن يوجده لمنفعه أوجده على كمال نفعه..."[16]

    ويعتمد هذا الدليل على النظر العقلي في نظام الأشياء لكى يرى العقل مبلغ الدقة والحكمة من ورائه ويحكم بعد ذلك: هل الطبيعة هى الفاعلة أو أن هذا النظام والإتقان الموافق لوجود الإنسان وراءه فاعل قاصد مريد. كما ينبه العقل إلى حقيقة غاية في الأهمية تبطل قول الطبيعيين الملحدين، وهذه الحقيقة مشاهدة محسوسة قد يمر عليها العقل ويغفلها، وهى التباين والاختلاف والتنوع في الأشياء والنتيجة المبنية على ذلك هى وجود فاعل قاصد مريد.

 

إثبات التوحيد:

    بعد إثبات الوجود الإلهي يأتى دور إثبات التوحيد لله وذلك عبر قاعدتين وهما:

أ‌-     الحداثة والقدم :

أول ما يلزم المكلف معرفته في التوحيد هو أن العالم كله محدث والله قديم. وقد لجأ سعديا لإثبات وحدانية الله بإثبات أن العالم محدث وبالتالى فالله قديم، وأن آثار الحدث والتأليف ظاهرة في العالم تدل على حدوثه. يقول سعديا: " إذ لا فرق بين الناس والملايكة (الملائكة) في باب أنهم محدثين مخلوقين.. وأيضاً إن كان أثر الحدث والتأليف دليلاً للملك على أنه خلق"[17].

والدليل الذى إذا نظرنا فيه علمنا حدوث الأشياء، أن الأجسام التى نعلمها بالمشاهدة وعلى سبيل الضرورة لا توجد إلا مع المحدثات التى لم تتقدمها الأجسام في الوجود إلا الأعراض كالحركات والسكون والقرب والبعد، فالأحوال المتغيرة التى نراها وتحصل فينا بالمشاهدة هى دليل الحدث[18].

يقول سعديا في هذا المجال: " وأيضاً لنصدق بالآيات التى سيخبرنا أنه أحدثها فيه بأن نقول من قدر أن يخلقه فهو يقدر على أن يحدث فيه أعراضاً ويزيل عنه أعراضاً، بل يفنيه، بل يعيده أيضاً"[19].

ويسوق سعديا في موضع آخر مثالا لتوضيح هذا الأمر بالنار وحالها من التغيير والفقر مما يدل على أثر الحدث فيها. فيقول: "فإن اعتقدنا هذا على الظاهر من اللفظ أحاله العقل وأفسده لأن العقل يقضى بأن كل نار محدثة لأنها فقيرة محتاجة وأنها تحتمل التغيير بعد قضاها بأن الخالق لا يجوز عليه من هذا كل شى (شىء)"[20].

إذا ًفالله قديم وما سواه حادث، فيقول سعديا: " صدر العبرة بأنه قال تبارك الله إله إسرايل (إسرائيل) الفرد على حقيق الواحد القديم على معنى الوحدة الذى علمه ..."[21]

فالعقل يحتم بالضرورة وبالبداهة انقسام الموجودات إلى قسمين: موجود حادث، وهو ما لوجوده أول ومفتتح. أما القديم الذى لا أول لوجوده[22].

أما الدليل الثاني لإثبات حداثة العالم عند سعديا فهو التأليف والتركيب. يقول سعديا: "أثر الحدث والتأليف"[23] فالأشياء في اضطرارها إلى التركيب دليل على الحداثة.[24]

والدليل الثالث الذى يقدمه سعديا هو تناهى الزمان يقول: " فالأولون يقولون لا يجوز أن يكون شى (شىء) لا من شى (شىء) ويجوز أن يكون المكان والزمان والمتمكن مادين بلا نهاية والأمر بعكس ذلك لا يجوز أن يكون الزمان والمكان والمتمكن غير متناهين ويجوز أن يكون شى (شىء) لا من شى (شىء)"[25].

فالآن الحاضرة هى الآن الرئيسية وهى الصلة بين الآن الماضية والآن الآتية، ولا يستطيع الفكر تجاوز الزمان رأسيا لأن الزمان لا نهاية له، ولا يستطيع الوجود الوصول إلينا سفلاً، لأن المسافة بيننا وبينه لا نهاية لها. ولو لم يصل الوجود إلينا لما كنا موجودين، وبما أننا موجودون فهذا يعني أن الوجود وصل إلينا، وبما أن الوجود قد وصل إلينا فهذا يعنى أن الوجود قد قطع المسافة حتى وصل إلينا إذاً فالزمان متناه.[26]

والنتيجة المترتبة على هذه الأدلة الثلاثة أنه إذا كانت الأجسام وسائر الأعراض محدثة فلا بد من محدث، وهذا المحدث لا يجوز أن يكون إلا مخالفنا وهو القديم تعالي. يقول سعديا: "فالأشياء أجمعين المحسوسة لما قضى العقل بأنها محدثة لزمها الفقر والحاجة إلى ما وصفنا ما قامت الأرض وباريها تبارك وتعالى لما حكم العقل بأنه غير محدث وكان معنى ذلك أنه أزليا لا ابتدى (ابتداء) له  وجب من ذلك استغنى ذاته عن كل شى (شىء)  لاستغنائه بأنها أزلية الوجود"[27]

وقد أثبت سعديا هذه القضية بالمبدأ نفسه الذى استخدمه بعض علماء المسلمين وهو قياس الغائب على الشاهد للرد على نفس الفرق وهم الملاحدة والمجسمة والمشبهة، فالغائب هو الله سبحانه وتعالي لكونه غائباً عن الحواس، والشاهد هو الوجوه الممكنات في عالم الحس وهى آثار الحدث [28]. يقول سعديا: " ولا يجوز أن نتوهم أن عين حكمته مخالفة لعين حكمة المخلوقين، وكذلك القول في قادر وفي حي لأنا إن توهمنا ذلك أطلقنا أن يكون شيئاًَ في الغائب بخلاف ما في الشاهد وساغ للملحدين أن يردو علينا من الشكوك ما يفسدنا به حقائقنا"[29]

وقد استخدم النظَّام وفي أعقابه سعديا نفس الاستدلال بالغائب على الشاهد معتمدين على دليل واحد لإثبات حدوث العالم ووجود الله، وهو القدرة على صنع الشىء وضده، فذلك دليل على وجود خالق واحد في الغائب. يقول النظَّام: " وجدت الحر مضاد للبرد، ووجدت المضادين لا يجتمعان في موضوع واحد من ذات أنفسهما فعلمت بوجودي لهما مجتمعين أن لهما جامعاً جمعهما، وقاهراً قهرهما على خلاف شأنهما، وما جرى عليه القهر والمنع وضعيف وضعفه ونفوذ تدبير قاهره فيه دليل على حدثه وعلى أن له محدثاً أحدثه ومخترعاً اخترعه"[30].

يقول سعديا: "وقالوا أيضاً ما وجه الحكمة في أن جعل هذا قوياً وهذا ضعيفاً وهذا عظيماً وهذا صغيراً، وسأموا أن تكون الخلائق كلها متساوية الأقدار والقوة وساير (سائر) الأقوال. وهذا ضد الحكمة لأن الأشيا (الأشياء)  لو تساوت حتى تكون كلها شى واحد (شيئاً واحداً) لم يكن للعقل فيها معمل ولا تمييز وكنا نتوهم أن نصنعها بطبعه وكما أن النار تحرق بطبعها ولا تبرد والثلج يبرد بطبعه ولا يحرق. لكنه جعلها مختلفة لنعلم أن يفعل الشى (الشىء) وضده".[31]

ب‌-الوحدانية:

بعد إثبات التوحيد بإثبات الحداثة والقدم، تبقى الوحدانية وقد استخدمت المعتزلة دليلاً أوحد، وقدمه أيضاً بعدهم كل مفكري الإسلام، وبالضرورة سعديا، لإثبات الوحدانية لله وهو دليل التمانع، استدلالاً بالآية الكريمة "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا"[32]. فصلاح العالم يدل على أن صانع العالم واحد، إذ لو لم يكن كذلك لفسدت السماوات والأرض. فالعقل يقول لو كان معه ثان لتمانعا، وهذا يؤدى إلى الضعف الذى لا يجوز إلا على الأجسام، فيحصل له العلم بأنه واحد، لا ثاني له يشاركه في القدم والإلهية[33] .

ويرى سعديا أن الخلق في مجمله عمل واحد ولذلك لا يمكن أن يكون قد اشترك في صنعه خالقان كل منهما له مشيئة وإرادة، وإلا كانتا ستتعارضان، وبالفعل لا توجد تناقضات في العالم تثبت ذلك، بل يدل تكامله على أن صانعه واحد، فلو كان هناك خالقان لجاء العالم مليئاً بالتناقضات.[34]

ثانياً:الصفات:

        بعد إثبات وحدانية الله وتوحيده بإثبات أن العالم محدث والله قديم، يأتى دور ما يجب أن يلحق به من صفات وما يجب أن ينزه عنه، ولذلك توجد أربعة صفات أساسية يجب أن تلحق بالذات الإلهية وهي (القدم، العلم، القدرة، الحياة)، هذا بالإضافة إلى الكثير من الصفات الثانوية[35].

وهذه الصفات الأربع هى الصفات التى أقرتها المعتزلة في سبيل تأكيد أصل التوحيد لمنع أى نوع من أنواع الفصل أو التعدد بين الله وذاته، لأن الله قديم، وصفة القديم مثله في القدم، فإذا كانت شيئاً غيره كان هناك قديمان أو أكثر وهو تعديد في التوحيد.. فهم لم ينكروا الصفات كما صنعت المعطلة، وإنما قالوا بوحدة الذات والصفات[36]، فلله قدرة وعلم ولكنهما عين ذاته، ولذلك فإنه عندما يقول خلقت بيدي فإنما يعنى خلقت بقدرتي وعلمي، يريد أنه على ذلك قادر وبه عالم، توليت ذلك بنفسي، لا شريك في تدبيري وصنعي، لا أن قدرتي وعلمي ونفسي غيري، بل أنا الواحد الذى لا شىء مثله.[37]

        وقد اعتبر سعديا أن الصفات الأساسية التى يجب أن تلحق بالذات الإلهية هى القدم[38]، والحياة والقدرة، والعلم وهذه الصفات هى عين ذاته ليست منفصلة عنها لأنها لو كانت منفصلة لأوهمت بالتعدد، وهذه الصفات أزلية لا تتغير. يقول سعديا: "وينبغى أن يعلم المومن (المؤمن) في هذا الباب أنه بعد إثباتنا ذاته ذات أزلية لا كالذوات المحسوسة وجميع ما نثبته له بعد ذلك فهو كالأشيا (الأشياء) الموجودة، وهى الثلاث أوصاف الجليلة قادر وحي وعالم ووجوب إثباتنا له أنه قادر ووجوب اثباتنا له أنه قادر فلأنا لا نعلم فاعلاً إلا فهو قادر، وأما حي فلأنا لا نعلم فاعلاً إلا فهو حي، وأما عالم فلأنه علم أن الأشياء.. وهذه الأوصاف الثلاثة أوصاف لا توجب فيه تغير وعلى أن أقول منها يفيد السامع فايد ]فائدة[غير ما يفيده الآخر".[39].

والوحدانية والقدم صفتان سلبيتان لأنهما لا يثبتان شيئاً زائداً عن الذات، ومن ثم لا يمسا فكرة التوحيد، أما العلم والقدرة والحياة فهى صفات إيجابية أى ثبوتية، وهذه الصفات ليست زائدة على الذات، لأن ذلك يقتضى تصور الذات الإلهية مركبة من صفة وموصوف، والتركيب من صفات الأجسام والجسمية مستحيلة على الله لما فيها من نقص وحداثة. فيقول سعديا: " وإذا رأينا (الإنسان) حيناً يعلم حيناً يجهل صح عندنا أنه بسبب كان يعلم فإذا هو عدمه جهل. ولشعورنا به قادراً في حال عاجزاً في حال تبين لنا أن السبب الذى اقدره ارتفع عنه ولذلك عجز. وأما خالق الكل إذ ليس يلحقه من هذه الأمور شى (شىء)  فإنما هو عالم وقادر وحي لذاته لا لشى(لشىء) سواه. وقولنا لذاته هذه اللفظ أيضاً تعبير وتقريب وقد اذكرنا أيضاً في كتبه أن قدرته وعلمه وبقاه لا تتغير فتصير سواه إذ لا نهاية لها"[40].

ومن هنا ومن هذه النقطة على الأخص تميزت المعتزلة عن غيرها من الفرق الإسلامية فالأشاعرة مثلاً يميزون بين الصفة والوصف، فالصفة عندهم شىء يوجد في الموصوف، أو يكون له، ويكسبه الوصف، أما الوصف فهو قول الواصف لله تعالى أو لغيره بأنه حى وقادر وعالم...هو غير الصفة القائمة بالله أو بغيره.[41] أما عند المعتزلة، فقد وحدوا بين الصفة والوصف، فالصفة هى قول الواصف وتعنى نفى الضد[42]، ولكن الأشاعرة استنكروا ذلك لأن توحيد الصفة والوصف، يعنى أن الصفات تتم بالمواصفة من الخلق، وهذا يؤدى إلى أن تكون له صفة قبل أن يخلق خلقه.[43]

والدليل عندي على أن سعديا تأثر بما قالته المعتزلة[44] لا الأشاعرة قوله: " وإذا رأيناه حيناً يعلم وحيناً يجهل..." فالصفة عند سعديا تعنى نفي الضد فالعلم لدى الخالق لينفي عنه الجهل، والقادر ليس بعاجز ومن لا يدركه الموت. يقول سعديا: " فقولنا هو شى (شىء) لنثبت ذاته ولننفي قول من أبطله والكتاب تقول على الموجود " יֵש" وقولنا أزلى[45] باقي لننفي أن يكون له قبل ولا بعد على ما شرحنا. وقولنا حكيم لنثبت له الحكمة التامة وننفي عنه الجهل قليله أو كثيره. وقولنا قادر لنثبت له القدرة الصحيحة وننفي عنه العجز وليس البقا (البقاء) ولا الحكمة ولا القدرة شى (شىء) سواه الوجوه التى بينناها".[46].

وسبب نفي المعتزلة ومن تبعهم مثل سعديا للصفات عن الله لأنها أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، فإذا اعتبرت الصفات زائدة على الذات، يلزمها خصائص الأعراض، لأن القائم بالشىء يحتاج إليه، وعندها يصبح الله محلاًّ للأعراض، ويلزمه التركيب والتجسيم والانقسام، ويكون المركب مفتقراً إلى أجزائه، وأجزاؤه غير، والمفتقر إلى غيره ليس واجباً لذاته.

وبعد هذه الصفات الأساسية هناك صفات أخرى ترتبط بالمبادئ السابقة يجب توضيحها مثل الإرادة، فقد ارتبطت صفة الإرادة عند سعديا بمبدأ العدل، وفسرها سعديا بأن الله يفعل ما يريد لأن إرادته تكون في صالح العباد وخيرهم، ولكنها لا تعنى فرض إرادته عليهم. يقول سعديا: " وقولنا هو أزلي باقي... وقولنا هو شى (شىء) أزلي باقي حكيم قادر يخترع كل ما يريده بإرادته من عدل"[47].

وقد اتفقت غالبية المعتزلة (العلَّاف والنظَّام والجاحظ والبلخي والخوارزمي) على أنه لا معنى للإرادة والكراهة في الشاهد والغائب إلا الراعي والصارف، وذلك يعني العلم باشتمال الفعل على مصلحة واعتقاد أو ظن ذلك، ولما استحال في حق الله تعالى الاعتقاد والظن فلا بد من أن يكون المعنى للداعى والصارف في حقه إلا علمه باشتمال الفعل على المصلحة. أى كون الله يريد الخير، معناه أن يعلم أنه الخير[48].

وهكذا ارتبطت الصفات الأساسية ببعض المبادئ الأساسية، مثل القدم ارتبط بالأزلية والاستغناء عن موجود يوجده ومبقٍ يبقيه، وعن الزمان والمكان والتركيب. فيقول سعديا: "وباريها تبارك وتعالى لما حكم العقل بأنه غير محدث وكان معنى ذلك أنه أزلياً (أزلي) لا ابتدى (ابتداء) له واجب من ذلك استغنى ذاته عن كل شى (شىء) لاستغنايها (لاستغنائها) بأنها أزلية الوجود سرمدية البقا (البقاء) عن موجود وعن مبقي إذ هو الموجد للكل والمبقي له... وبالأحرى إذ ليس موجد ولا مبقي سواه كاستغنايه (كاستغنائه) عن زمان ومدة يبقى فيهما لأنه هو بارى (بارئ) الأماكن"[49].

فمعنى قديم ينحصر في معنيين إثبات الحدوث للمخلوقات والآخر أنه لم يزل ولن يزول وملكه لا يزول ولا يفنى[50]. ويتبين من هذا أن الفارق بين القديم والمحدث أو بين الله والمخلوقات قائم في أن المحدث له كل وجميع وغاية أى أنه محدود المساحة. وكل شىء نستطيع أن نحدد له كلاًّ لا بد أن يكون ذا أبعاض، إذن فالمحدثات لها أجزاء، ولما كنا قد سلمنا بأن كل محدث محدود المساحة أى له نهاية، فلا بد أن تكون الأجزاء التى يتألف منها ذوات نهاية أيضاً أى أنها أجزاء لا تتجزأ، ومما يؤكد ذلك أيضاً أن الله يذكرنا في كتابه العزيز أنه عليم محيط بكل شىء ولا يكون العلم والإحاطة إلا لذى نهاية وهذا معناه أن الأشياء والأجزاء التى تتألف منها ذوات نهاية وأن الأشياء مُحدثة ولها أول قديم.[51]

وكذلك صفة الحياة تم إثباتها بمبدأ الغائب والشاهد، وذلك أن الحياة شرط في القادر والعالم شاهداً فكذلك غائباً، يقول سعديا: " ولا يجوز أن نتوهم أن عين حكمته مخالفة لعين حكمة المخلوقين. وكذلك القول في قادر وفي حي، لأنا إن توهمنا ذلك أطلقنا أن يكون شياً (شيئاً) في الغائب بخلاف ما في الشاهد.. ولكنا يجب أن نعتقد أن عين الحكمة هى واحدة. وكذلك القول في قادر وفي عالم وفي حي. فإن سأمنا (سألنا) سائم (سائل) أنه عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحيوة على الموجود، أوضحنا أن ذلك يلزمنا لأنا ليس لعين ما المخلوق حى قضينا عليه بأنه حى بحيوة (بحياة) ولا لنفس ما المخلوق عالم حكمنا عليه أنه عالم بعلم ولا لذات ما المخلوق أوجبنا عليه أنه قادر بقدرة. لكن لما شاهدناه وقتاً حياً...".[52]

ويقول القاضى في هذا: " قد ثبت أن الله تعالى عالم قادر، والعالم والقادر لا يكون إلا حياًّ لأننا نرى في الشاهد ذاتين: أحدهما صح أن يقدر ويعلم كالواحد منا، والآخر لا يصح أن يقدر ويعلم كالجماد، فمن صح منه ذلك فارق من لا يصح من الأمور، وليس ذلك إلا صفة ترجع إلى الجملة وهى كونه حياًّ، فإذا ثبت هذا في الشاهد ثبت في الغائب".[53]

 



1- سورة الغاشية: الآية 17.

[2] - سورة الأعراف: الآية 172.

[3] - حيث شغلت قصة الخلق الإصحاح الأول والثاني من سفر التكوين.

[4] - صحيح أن أول فقرة في سفر التكوين تقول "في البدء خلق الله السماوات والأرض" لتدل على أن الله وجد قبل الخلق، ولكنها لم تستخدم كدليل على صفة القدم لله، إلا مع ظهور سعديا.

[5] - שמעון ראבידוביץ:עיונים במחשבת ישראל.עמ"185.

[6] - מ.צ.סגל:מבוא למקרא.כרך שני.עמ"259 ، انظر سفر التكوين الإصحاح 14، 15، وكذلك (36: 31)، وسفر الخروج الإصحاح 3،4، (15: 3-4) ، وسفر صمويل الثاني (22: 30-35)، وسفر العدد (25: 4-5) (31: 1-12)، وسفر التثنية (7: 16- 18) (20: 10-18).

[7] - انظر في قضية التجسيم والتنزيه من صفحات هذا البحث صـ200.

[8] - انظر سفر الخروج (3: 18)، (25: 8)، سفر اللاويين (16: 16).

[9] - انظر سفر  الخروج (15: 11) (1: 6).

[10] - انظر سفر صموئيل الأول (26: 19)، לקסיקון מקראי: עמ" 46، 47.

[11] - مقدمة تسوكر للتفسير : صـ 34.

[12] - وهم من لا يرون أنه لا نهاية لهذا العالم، ولا يؤمنون بالبعث، ويقولوا إنه لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا، يموت بعضنا ويولد بعضنا إلى ما لا نهاية، حيث لا بعث ولا نشور ولا قيامة ولا حشر. ومن هنا اعتقدوا أن الكون مستقر بلا بداية ولا نهاية وأنه هو الأزلي والدائم.

[13] - مقدمة تسوكر للتفسير: صـ 34، 35.

[14] - سورة الطور: الآيتان 35- 36.

[15] -  الحافظ البيهقى: كتاب الأسماء والصفات. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. صـ 23-28، 38- 41، 495- 496.

[16] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 32- 35.

[17] -  تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 51.

[18] - القاضى عبد الجبار: المختصر في أصول الدين ضمن رسائل العدل والتوحيد. ج1. صـ 174.

[19] - مقدمة سعديا لتفسير سفر التكوين: صـ 9.

[20] - المرجع السابق: صـ 18.

[21] -  سعديا جاءون. تفسير سفر الأمثال: صـ 1.

[22] -  الجويني: الشامل في أصول الدين. تحقيق هلموت كلوبفر. دار العرب.1960-1961.ج1. صـ 46.

[23] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 51.

[24] - القاسم الرس: نقد المسلمين للثنوية والمجوس مع الرد على ابن المقفع. تحقيق: إمام حنفي عبد الله. دار آفاق العربية. ط1. 2000. صـ 138.

[25] - مقدمة تسوكر للتفسير: صـ 34.

[26] - الجويني: الشامل. ج1. صـ 49، 107، 112.

[27] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 26.

[28] - الباقلاني: التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج. تحقيق محمود محمد الخضيري- محمد عبد الهادي أبو ريدة. دار الفكر العربي. القاهرة. 1974.صـ 39- 50.

[29] - مقدمة سعديا لتفسير سفر التكوين: صـ 22.

[30] - الخياط: الانتصار. صـ 89.

[31] - مقدمة سعديا لتفسير سفر التكوين: صـ 24.

[32] - سورة الانبياء: الآية 22، سورة المؤمنون: الآية 91، سورة الأسراء: الآية 42.

[33] - القاضى عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة. صـ 35.

[34] - יצחק גוטמן: הפולוסופיה היהודית.עמ 68.

[35] - وقد قسم سعديا صفات الذات الإلهية إلى أساسية وثانوية كما فعلت المعتزلة، ولكن هذا التقسيم ظهر في كتابه الأمانات والاعتقادات، سعديا جاءون: كتاب الأمانات والاعتقادات. نشره لانداور. ليدن. 1880، صـ 113، 115.

[36] - الأشعري: مقالات الإسلاميين. صـ 164- 169.

[37] - القاسم الرس: كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبيه. ضمن رسائل العدل والتوحيد. ج1.صـ 107.

[38] - وقد تم إثبات صفة القدم عنده عند الحديث عن إثبات التوحيد: صـ180 من البحث.

[39] -  تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 22.

[40] - المرجع السابق: صـ 22.

[41] - الباقلاني: التمهيد . صـ 47- 52.

[42] - القاضى عبد الجبار: شرح الأصول. صـ 65، 80، 120، المغنى: 7/ 217.

[43] - نصر حامد أبو زيد: الاتجاه العقلي في التفسير. صـ22،70 .

[44] - وقد اتبع سعديا مبدأ جهم بن صفوان (218هـ) بنفي الصفات الذى اعتمد فيه على مفهومه للتوحيد. الشهرستاني. الملل والنحل .ج1. 86- 88.

[45] - يقرر العلَّاف أيضاًَ أن صفات الله كلها أزلية ما عدا الإرادة فهى عنده حادثة لا في محل. دى بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام. ترجمة د/ محمد عبد الهادي أبو ريدة. لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة. ط4.  1957 . صـ 107.

[46] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 21 .

[47] - المرجع السابق: صـ 21.

[48] - أوليري: الفكر العربي ومكانه في التاريخ. ترجمة د. تمام حسان. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1997م. صـ 96- 102.

[49] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 26.

[50] - الشهرستاني: الملل والنحل. ج1- صـ 42، 68 .

[51] - حنا الفاخوري: تاريخ الفلسفة. ج1. صـ 158- 159.

[52] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 22.

[53] - القاضى عبد الجبار: شرح الأصول. صـ 34، 80، 81، المحيط بالتكليف 1/ 127، 128.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button