موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية


إذا تتبعنا الحركة الدينية منذ بداية الإسلام سنجدها تدور حول ثلاثة أشياء هى القرآن وتفسيره، والحديث وجمعه وتبويبه، واستنباط الأحكام لما يعرض من أحداث.

وقد كانت مصادر تفسير القرآن هى:

1- القرآن الكريم: القرآن الكريم في حد ذاته مصدر لتفسيره، حيث إنه يشتمل بداخله على الإيجاز والإطناب والإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد وعلى العموم والخصوص. وما أُوجِز في مكان قد يبسط في مكان آخر، وما أُجمل في موضع قد يبين في موضع آخر، وما جاء مطلقاً في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عاماًّ في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى.   

2-التفسير بالمنقول: وهو تفسير نقل عن النبى صلى الله عليه وسلم، لأنه كان معدوداً من البديهي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يُسأل عن معنى مفردات وآيات من القرآن ويبين ذلك. كذلك هو نفسه لم يفسر تلك الآيات من عنده، بل تلقى تفسيرها من جبريل الملك، فقد كونت الأحاديث بابا في تفسير القرآن، ويلحق بهذا ما نقل عن الصحابة من وجوه التفسير. وكان طبيعياًّ أن يفهم النبى (صلى الله عليه وسلم) القرآن جملة وتفصيلاً، لأن الله تعالى تكفل له بالحفظ والبيان كما قال تعالي " إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ  ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ". كما كان طبيعياً أن يفهم صحابة النبى (صلى الله عليه وسلم) القرآن في جملته، أى بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلاً، ومعرفة دقائق باطنه، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لا بد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فيما يُشكل عليهم فهمه، وذلك لأن القرآن فيه المجمل والمشكل والمتشابه وغير ذلك مما لا بد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها. وبالتأكيد كان الصحابة يتفاوتون فيما بينهم في القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه المرادة منه وذلك راجع إلى اختلافهم في أدوات الفهم.

3-الاجتهاد والرأى:  كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا لم يجدوا التفسير في كتاب الله تعالى ، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا في ذلك إلى اجتهادهم


وإعمال رأيهم، وهذا بالنسبة لما يحتاج إلى نظر واجتهاد أما ما يمكن فهمه بمجرد معرفة اللغة العربية فكانوا لا يحتاجون في فهمه إلى إعمال النظر، لأنهم يعرفون كلام العرب ومناحيهم في القول، ويعرفون الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد من ذلك في الشعر الجاهلي.

لذلك فإن أدوات المفسر بالرأى المحمود منذ أيام الصحابة هى: 

أ-معرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها.

ب- معرفة عادات العرب، حيث تعين على فهم الآيات التى لها صلة بعاداتهم.

ج-معرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن، حيث تعين على فهم الآيات التى فيها إشارة إلى أعمالهم والرد عليها.

د- معرفة أسباب النزول، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات تعين على فهم كثير من الآيات القرآنية.

 وممن سلكوا هذا السبيل من الصحابة ابن مسعود وابن عباس، حيث كانت هناك تعبيرات نادرة في لغة القرآن، وكان من دأب ابن عباس أن يحيل على الشعراء القدامي، الذين كان يرى الاعتداد باستعمالهم اللغوي في التفسير.

4-التوراة: وما علِّق به عليها من حواش وشروح، بل وما أدخل عليها من أساطير، حيث كانت شفاهية الحديث النبوى وعدم تدوينه مدخلاً للتلفيق والكذب والزيادة عليه، أما السبب الذى جعل المفسرون يرجعون إلى التوراة فهو اتفاقها مع القرآن الكريم في بعض المسائل، وبالأخص في قصص الأنبياء وما يتعلق بالأمم الغابرة، كذلك يشتمل القرآن على مواضع وردت في الإنجيل كقصة ميلاد عيسى عليه السلام.

غير أن القرآن اتخذ منهجاً يخالف منهج التوراة والإنجيل، فلم يتعرض لتفاصيل جزئيات المسائل، ولم يستوف القصة من جميع نواحيها، بل اقتصر من ذلك على موضع العبرة فقط, ولما كانت العقول دائماً أميل إلى الاستيفاء والاستقصاء، جعل بعض الصحابة- رضى الله عنهم أجمعين- يرجعون في استيفاء هذه القصص، التى لم يتعرض لها القرآن من جميع نواحيها، إلى من دخل في دينهم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وهذا النوع كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ويتوقفون عنده فلا يحكمون عليه بصدق ولا بكذب، امتثالاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا....".

ومن هنا فقد كان الكتاب والسنة هما مصدر التشريع في عهد النبى (صلى الله عليه وسلم)، وكان لا يحق لأى سلطة مخالفتهما، ولكن يُجتهد فيما لم يرد فيه نص مع الاسترشاد بما ورد في الكتاب والسنة من قواعد كلية، فحرية الفقهاء محدودة في دائرة فهم النص ومقدار الثقة بالحديث.، حيث رأى بعض علماء المسلمين (أمثال ابن حنبل) أن العلم القاطع ببعض أشياء في القرآن قد فقد من الجيل الذى جاء بعد عهد الرسول(صلى الله عليه وسلم) بوقت قصير، وأن في القرآن مواضع يستعصى فهمها على العلم الإنساني، لأن الله سبحانه قد استأثر بعلمها.

ولكن ما إن جاءت الفتوحات الإسلامية حتى جدت ظروف لم تكن موجودة، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصوراً على رواية ما نقل عن سلف هذه الأمة، أصبح تدوين التفسير مختلطا بالفهم العقلي والتفسير النقلي. وبدأ ذلك أولاً على هيئة محاولات فهم شخصى، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمراً مقبولاً ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية. ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة والعلوم المتنوعة والآراء المتشعبة والعقائد المتباينة.

فقد دونت في هذا العصر (العباسي) علوم اللغة والنحو والصرف وتشعبت مذاهب الخلاف الفقهي، وأثيرت مسائل الكلام، وظهر التعصب المذهبي، وقامت المذاهب الإسلامية بنشر مذاهبها والدعوة إليها، وترجمت كتب كثيرة من كتب الفلاسفة، فامتزجت كل هذه العلوم وما يتعلق بها من أبحاث بالتفسير حتى طغت عليه، وغلب الجانب العقلي على الجانب النقلي، وصار أظهر شىء في هذه الكتب هو الناحية العقلية، وإن كانت لا تخلو مع ذلك من منقول يتصل بأسباب النزول، أو بغير ذلك من المأثور.

وهكذا تدرج التفسير، واتجهت الكتب المؤلفة فيه اتجاهات متنوعة وتحكمت الاصطلاحات العلمية والعقائد المذهبية في عبارات القرآن الكريم، فظهرت آثار الثقافة الفلسفية والعلمية للمسلمين في تفسير القرآن، كما ظهرت آثار التصوف واضحة فيه، وكما ظهرت آثار النحل والأهواء فيه ظهوراً جليا.

وكذلك وجد من العلماء من ضيق دائرة البحث في التفسير، فتكلم عن ناحية واحدة من نواحيه المتشعبة المتعددة، فابن القيم- مثلاً- أفرد كتاباً من مؤلفاته للكلام عن أقسام القرآن سماه "التبيان في أقسام القرآن"، وأبو عبيدة أفرد كتاباً للكلام عن مجاز القرآن، والراغب الأصفهاني أفرد كتاباً في مفردات القرآن.... وغير هؤلاء كثير من العلماء الذين قصدوا إلى موضوع خاص في القرآن يجمعون ما تفرق منه، ويفردونه بالدرس والبحث. 

فكان لا بد أن يظهر أصل آخر من أصول التشريع ومنهج آخر من مناهج التفسير وهو التفسير بالرأى، الذى نظم بعد ذلك وسمى القياس. وقد وجدت نزعة في العصر الأول وهو عصر الخلفاء الراشدين لتنظيم هذا الرأى (القياس) عن طريق الاستشارة بين صحابة الرسول. وقد انتشرت مدرسة الرأى في القرن الأول والثاني، وتميزت تلك المدرسة بكثرة تفريع الفروع حتى الخيالي منها، وقلة روايتهم للحديث، واشتراطهم فيما يؤخذ به من حديث شروطاً لا يسلم معها إلا القليل.

لذلك وجدت في هذا العصر مدرستان في التفسير، مدرسة التفسير بالمأثور ومدرسة التفسير بالرأى. وكان النزاع بين مدرستي التفسير بالرأى  وبالمأثور شديد، ووجدت بينهما مدرسة تجمع بين الرأى بشروط وبين الحديث، وهذا عندما لا يكون هناك نص في مسألة موضع بحث، ومن أعلامها مالك بن أنس والإمام الشافعي.  

وكان لكل من المذهب النقلى (مدرسة التفسير بالمأثور) والمذهب العقلي (مدرسة التفسير بالرأى)  منهج في البحث، ففي النقل اعتمدوا على الرواية وصحة السند في النقل عن التابعين وترجيح أحد الأقوال. ومدرسة الرأى اعتمدت على العقل، فهو أكثر ما يعتمد عليه ميزان الحقائق والتجربة. وقد حارب كل منهما الآخر فرمى أصحاب النقل أصحاب العقل بالكفر والزندقة ورمى أصحاب العقل أصحاب النقل بالتزمت والجمود.

التفسير بالمأثور:

يشمل التفسير بالمأثور كما ذكرنا سابقاً، ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نقل عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وما نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما نقل عن التابعين من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم. وقد كان هذا التفسير في بعض الأحيان يكتب على أنه باب من أنواع الحديث المختلفة، يجمعون فيه ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وعن الصحابة والتابعين. ثم انفصل عن الحديث وأفرد بتأليف خاص جُمع فيه كل ما وقع لصاحب التفسير من التفسير المروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وتابعيه. 

فقد كان التفسير منظوراً إليه بعين الارتياب حتى عهد متقدم من القرن الثاني الهجرى، فقد روى أن الأصمعى ابتعد عن تفسير القرآن بسبب التقوى والورع، كما قال ابن حنبل "ثلاثة أشياء لا أصل لها. التفسير والملاحم والمغازى" حيث كانت عناية الفقهاء بالفقه. وقد أكد ذلك ما روى على أنه حديث للرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخشى على مستقبل أمته من ثلاث منها: ظهور رجال يفسرون القرآن بما لا يقتضيه التفسير الصحيح "رجال يتأولون القرآن على غير تأويله". فكان أهل السلف يخافون أن يفسروا القرآن بالرأى على حسب هواهم، ولكن التفسيرالصحيح هو الذى يعتمد على العلم، وهذا العلم هو المسند بالرواية إلى الرسول نفسه أو إلى صحابته، فهذا وحده العلم وما عداه رأى وهوى استشهاداً بالحديث (من قال في القرآن بالرأى فأصاب فقد أخطاً) فالتفسير المشهود بصوابه، أى المؤسس على "العلم" هو الذى يمكن إثبات أن النبى نفسه أو صحابته، الذين ينتمون إلى دائرة تعليمه، قد صرحوا به في بيان معنى القرآن ودلالته، وهذا التفسير بالتأكيد تلقاه الرسول من جبريل المبعوث من الله. 

وقد جاء على لسان من اتبعوا مذهب التفسير بالمأثور أن العلم القاطع ببعض الأشياء من القرآن قد فُقد من الجيل الذى جاء بعد عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) بوقت قصير، وأن هناك مواضع في القرآن يستعصى فهمها على العلم الإنساني لأن الله سبحانه قد استأثر بعلمها.

وكان موطن هذه المدرسة الحجاز وحاربت إعمال الرأى واعتدت بالحديث حتى لو كان ضعيفاً وقدمته على الرأى.

أما أهم المفسرين الذين اتبعوا التفسير بالمأثور، فمحمد بن جرير الطبري (224- 310هـ/ 839-923م) الذى اعتمد في منهجه التفسيري على الرواية والاسرائيليات والنقل وتفسير الآية على معناها الظاهري، ثم إذا لم يوفق يرجع بالآية إلى السند من الرسول والصحابة والتابعين، كذلك يلاحظ في تفسيره كثرة الرجوع إلى الشعر، وإن كان اهتمامه بالمسائل اللغوية يطرح بذلك مذهبه في الاعتماد على الرواية والنقل، وقد عارض المعتزلة بشدة، حيث كانوا يمثلون في عصره أهل الرأى، وخاصة للجوئهم للمجاز. 

وأول مبدأ يضعه الطبري للتفسير النقلي هو العلم المؤسس على صحابة الرسول وتابعيهم، والراوية التى يؤيدها التوارث المتسلسل، وإلى جانب ذلك إجماع الأمة في التفسير. ولكن ينبغي في المرتبة الأولى مراعاة المعنى الظاهر للفظ، الذى لا يجوز أن يتحول عنه التفسير، إلا أن تكون هناك مواضع أخرى من القرآن أو أسباب خاصة أخرى تقتضى تفسيراً آخر، وهذه الأسباب الأخرى هى أقوال السلف وعلى الأخص أقوال الصحابة والأئمة، أى التابعين وعلماء الأمة الإسلامية.  

وإلى جانب النقل يعتد الطبري بالاستعمال اللغوي العربي، فهو عنده أوثق المراجع في تفسير العبارات المشكوك فيها, وقد تميز الطبري بكثرة استخدامه للشواهد من الشعر العربي القديم، متتبعاً في ذلك ابن عباس، هذا إلى جانب الاستقصاءات النحوية التى يتناول فيها على وجه التفصيل بحث الظواهر اللغوية تبعاً لمختلف المدارك في مدارس النحو البصرية والكوفية، التى يعد كتابه من أقدم المصادر لمعرفتها وتقديرها حق قدرها.

هذا لا يعنى أن الطبري لم يلجأ إلا للنقل واللغة للتفسير، فقد كان يظهر في بعض الأحيان ميله لاستعمال الرأى في التفسير، ففي مسألة خلق العبد لأفعاله هل هو من يخلقها أو أنه مجبر يقضى الله عليه ما يريد؟ يظهر الطبري على استحياء أنه يرى أن العبد يختار أفعاله عن حرية واختيار، والله له جانب اللطف والتوفيق للعمل الصالح الذى يريده العبد حراًّ مختاراً، ومن إضلال الله خذلانه للعباد.  وكذلك في الآية التى اختلف عليها الكثير من المفسرين " وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ "، فقد رجعه البعض إلى الاستعمال اللغوي، فاليد تعنى النعمة أو القدرة،  ورأى أصحاب النقل أن الآية تفيد أن الله خلق آدم بيده، والله خلقه خصيصاً بيده على خلاف بقية الخلق، أما من رأوا أن المعنى هنا مجازي، فمعنى "يداه مبسوطتان"، أى: رحمتا الله مبسوطتان. وقد اتبع الطبري هذا الرأى. 

التفسير بالرأى:

يطلق الرأى على الاعتقاد والاجتهاد والقياس، ويطلق على من يتبعون منهجه أصحابُ الرأى. والتفسير بالرأى عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ووقوفه على أسباب النزول ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن وغير ذلك من الأدوات التى يحتاج إليها المفسر. ومن عارضوا التفسير بالرأى رأوا أنه قول على الله بغير علم، فلذلك هو منهى عنه لأن المفسر بالرأى ليس على يقين بأنه أصاب ما أراد الله تعالي وغاية الأمر أنه يقول بالظن، وردَّ أصحاب الرأى بأن الظن نوع من العلم، إذ هو إدراك الطرف الراجح، فالظن كاف لاستناده إلى دليل قطعي. واستندوا إلى قول رسول الله لمعاذ حين بعثه إلى اليمن(بم تحكم: قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد برأيي فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صدره، وقال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله). كما رأوا أن الرسول مات ولم يبين كل شىء، ولذلك قال تعالى " أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ". وقوله تعالي " كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ  ". وقوله " وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ". وبذلك حثنا الله على التدبر، وتعبدنا بالنظر في القرآن واستنباط الأحكام منه واستدلوا أيضاً بأن باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً ولولاه لتعطل كثير من الأحكام. واستدلوا أيضاً باختلاف الصحابة في تفسير القرآن مما لم يسمعوه من النبي. وكذلك دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) للعباس (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). فلو كان التأويل مقصوراً على السماع والنقل كالتنزيل، لما كان هناك فائدة لهذا الدعاء وهذا التأويل هو الرأى والاجتهاد.

وأول من نهج هذا المنهج هو ابن عباس الذى اشتهر برجوعه إلى الشعر للتفسير والاعتماد على الاستعمال اللغوي في التفسير، وذلك اعتماداً على مقولته "إذا تعاجم شىء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي". فكان أول من نمَّى الطريقة اللغوية في تفسير القرآن. 

ثم انضم علم الكلام ليكون مرجعاً للتفسير بالرأى، فاعتمد المتكلمون على البرهنة على الإيمان بالأدلة العقلية المنطقية، ومخاطبة من وجهوا سهام النقد للنص القرآني، وقد كثروا في هذا العصر، للنظر في الآيات في دائرة العقل والنظر، فبدلاً من أسلوب القرآن في نحو قوله " أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ " وضعوا طريقتهم لإثبات حدوث العالم وإقامة الدليل على حدوثه بنفسه إلى أن يصلوا إلى إثبات الله، ولهذا الغرض جمعوا الآيات المتشابهات التى تظهر الجبر أو جسمية الله والآيات التى يظهر أنها تخالف الأولي وأوَّلوها. فإذا أدَّى بهم البحث إلى أن الإنسان مختار أوَّلوا الآيات التى تدل على الجبر، وإذا أدى البحث إلى أن الله منزه عن الجهة والمكان أوَّلوا الآيات التى تخالف ذلك وتدل على وجوده في مكان ما.

وكان الخلفاء العباسيون بحاجة إلى علم الكلام العقلي لحسم بعض المسائل الشرعية ليرتفعوا على هذا النحو فوق الفقهاء، وليخرجوا من دائرة التنفيذ ويدخلوا مجال فهم القانون وتفسيره. وكان هذا بلا شك ما أتت به عقلانية المعتزلة في مواجهة المدارس الفقهية السنية التقليدية، وهو ما جعل المأمون يفرض مذهب المعتزلة مذهباً رسمياًّ للدولة العباسية في مطلع القرن الثالث الهجري.

وكان المعتزلة في ذلك الحين هم أهل التفسير بالرأى وتتلخص أسس منهج التفسير الاعتزالي (أى التفسير بالرأى) فيما يلى:

1 – الاعتماد على الحجج القرآنية: اختلف المعتزلة عن فلاسفة المسلمين في أنهم قدموا قضاياهم كثمرات للحجج التى آتى بها القرآن الكريم. فهم يقدمون العقل على النقل التقديم الذى يوجب تأويل ظاهر النص بما يتفق مع معطيات العقل وحججه. فعقل الإنسان يشهد لنواطق حجج القرآن وما نطق به الرسول يشهد له القرآن والعقل، ففسروا حجج القرآن على ضوء حجج العقل الذى ينكر على سبيل المثال أن يؤمر بالفعل من لا يستطيع الدخول فيه دونما جبر أو إكراه.

2- المحكم والمتشابه: والمتشابه كالفرع بالنسبة للمحكم. والأصل ما أجمع عليه العقلاء ولم يختلفوا فيه. فمثلاً من الآيات المحكمة ما يدل على التوحيد بقوله تعالى " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ  " و" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ". ومن الآيات المتشابهة " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ  إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ  " وهى آية متشابهة يجب ردها إلى المحكم وهو قوله تعالي " لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ  ". فالتأويل المقبول للآية أن الوجوه يومئذ تكون ناضرة مشرقة ناعمة إلى ثواب ربها منتظرة.  

3-تفسير الآيات بالسياق: مثل قوله تعالى"إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا " التى يحتج بها المجبرة ويتعلقون بظاهرها. أما لدى المعتزلة فهذه الآية يجب أن تفسر على أنها حكاية لما قاله المشركون عن أنفسهم في الآية التى تقول على لسانهم "وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ  ". وكذلك استعملت المعتزلة أسباب النزول وملابساته لتفسير الآيات.  

تحديد معنى المصطلحات: وذلك عن طريق استقراء آيات القرآن فيحصون المواضع التى وردت فيها هذه المصطلحات، وتحديد معناها، مع الاستشهاد بالاستخدامات اللغوية البليغة للعرب لهذه المصطلحات وشواهد الشعر .

الاستشهاد بالواقع المحسوس: مثل أن الله خلق المواد الأولية للصناعات مثل القطن والصوف والحديد، ثم جعل في الناس الاستطاعة والقدرة المركبة فيهم فيحولونها من مواد أولية إلى ما نرى من مصنوعات ودور وقصور فهم من فعلوا الحدث.

الإلزام: وهو إلزام الخصوم موقفاً شنيعاً يصعب عليهم الرضا به، وهو أسلوب جدلي يجعل الخصوم يعيدون النظر فيما يقولون مثل أن من يقولون بالجبر سيصفون الذات الإلهية بأقبح الصفات، ويلزمهم أيضاً أن يقولوا إن العصاة لم يكن في وسعهم إلا فعل المعاصى.

 العقل: لم يشهد التاريخ الإسلامي فرقة مثل المعتزلة في فتحها الطريق أمام العقل ليبحث في كل الأمور حتى في ما وراء الطبيعة. وعن طريق العقل أوَّلوا كل ما يخالف مبادئهم، فرتبوا عقائدهم في تسلسل منطقي، حيث كانت كل نقطة تسلم إلى ما يليها دون أى خوف من النتائج. والنقل يسير معهم في هذه المسيرة إذا توافق مع البرهان العقلي فقط، أما الآيات القرآنية المتشابهة التى لا تتوافق مع ما يقره العقل، فيتم تأويلها. وكذلك الحديث يخضع لتأويل العقل إذا كان يخالف المبدأ العقلي. أما ما لا يرد فيه نص فالمجال مفتوح لإعمال العقل كيفما يشاء. كذلك عن طريق النظر العقلي كانوا يعرفون كيف يأتون بمواضع من القرآن تؤيد مذهبهم.

وقد أنكرت المعتزلة بعض الأحاديث التى لا تتفق مع مذهبهم، ولكن هذا لا يعنى رفضهم للحديث تماماً، بل يعنى تقديمهم للعقل على النقل، واستشهدوا على صحة ذلك بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "أول ما خلق الله العقل، فقال له:- أقبل، فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، ثم قال له الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم منك، بك آخذ وبك أعطى وبك أثيب وبك أعاقب".

ووصل العقل بهم إلى أن جعلوا من الأنبياء أنفسهم مرسلين للنظر في أدلة العقل والاستدلال، فالرسل يتممون عمل العقل الذى يجب أن يؤدى دوره قبل ظهور الرسل، فقبل أن يتم اختيار النبى لتلقى الوحي كان معصوماً من الكفر عن طريق العقل. 

وكذلك كان هناك دور آخر للعقل لدى المعتزلة وهو محاربة التصورات الخرافية المناقضة للطبيعة التى رسخت قدمها في الدين.

6-المجاز: كان المجاز هو سبيل المعتزلة لتفسير الآيات الدالة على التشبيه، وخاصة الآيات التى تلحق صفات بشرية بالذات الإلهية، مثل البصر والسمع، وكذلك التصورات التى على خلاف حرية الإرادة الإنسانية.

وكان من أهم الأسس التى وضعتها المعتزلة للتفسير هى نظرية وجوه القرآن، فهم لا يرضون بوجه واحد في التفسير فيضعون للقضايا التى تقدمها النصوص القرآنية محاولات من الحل يرون أنه لا يمكن عدّ واحدة منها غير ممكنة. وأن الواحدة أو الأخرى من هذه المحاولات ستطابق المعنى الحقيقي لكلام الله.

9- المبدأ اللغوي: وكان هذا المبدأ يظهر في تفسير الآيات القرآنية التى لا يليق ظاهرها بمقام الألوهية أو تحتوى على تشبيه، فيحاولون أولاً إبطال المعنى الذى يرونه مشتبهاً في اللفظ القرآني، ثم يثبتون لهذا اللفظ معنى موجود في اللغة يزيل هذا الاشتباه ويتفق مع مذهبهم مستشهدين باستخدامات اللغة والشعر . فقد كان علماء المعتزلة يحملون الآيات الدالة على التشبيه، أو التى لا تليق بالذات الإلهية، على تأويلات أليق وأبعد عن التشبيه مع الاستشهاد على ذلك بالأدلة اللغوية من الشعر، فمثلاً لا يرضيهم ظاهر قول الله "وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا" فيجدون هنا بيتاً للشاعر العربي زهير، يدل على أن لفظ "خليل" يحمل أيضاً معنى: المحتاج. إن مثل هذا التحوير في الدلالة، لغرض تفسير القرآن بالرأى، يعد من الوسائل الكثيرة المساعدة للتفسير الاعتزالي . وكان الزمخشري أكبر ممثل لهذا الاتجاه.

المصدر: كتاب : أثر مناهج تفسير القرآن الكريم في تفسير سعديا جاءون لسفر التكوين، د.عزة محمد سالم، مكتبة الآداب، ٢٠٠٩
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button