د.رشا عبد الحميد محمد، كلية الألسن، جامعة
عين شمس
الزمن
ذلك العنصر الذي يمثل واحدا من العناصر الأساسية التي يقوم عليها السرد، فهو
الإيقاع الذي يضبط مسيرة أحداث الرواية. وللزمن سمة جعلته موضع اهتمام الفكر
الإنساني، ووضعته بصدد التأمل والبحث فيه، فهو "مظهر وهمي"، أي أنه «ليس
له وجود مستقل نستطيع أن نستخرجه من النص مثل الشخصية أو الأشياء التي تشغل المكان
أو مظاهر الطبيعة[1]»،
ولكننا نرى أثره على الإنسان أو على الأشياء حين تبدلها من حال إلى حال، أو من طور
إلى طور.
من
هنا تأتي أهمية الزمن عنصرا بنائيا في الرواية، حيث لا يمكن إدراكه ككيان مستقل
بذاته، بل يُدرك من خلال أثره على العناصر الروائية الأخرى، ومن خلال حركة الأحداث
فيها. ولتلك الطبيعة الخاصة، أصبح الزمن عنصرا محوريا، يترتب عليه عناصر التشويق
والإيقاع، ثم إنه يحدد في الوقت نفسه دوافع أخرى محركة للسرد، مثل السببية
والتتابع واختيار الأحداث[2].
فالزمن
بذلك يحدد إلى حد بعيد طبيعة الأحداث ويشكلها، فهو بمثابة المدخل الذي يدخل منه
القارئ إلى عالم الرواية، كما ذكر "هانز ميرهوف" "Hans
Meyerhoff" أن «الزمن هو وسيط الرواية، وأن عبارة كان
يا ما كان في قديم الزمان، هي الموضوع الأزلي لكل قصة يحكيها الإنسان[3]».
وكماسنرى في تحليل الرواية العبرية، كيف أن المؤلف "دافيد جروسمان"
استهلها بهذه العبارة (كان ياما كان)، التي استلهمها من التراث الشعبي العربي،
لتكون هي المفصل الذي يربط بين حكايات شخوصها.
الزمن
في رواية القرن التاسع عشر ورواية القرن العشرين:
ثمة
فارقا مهما بين مفهوم الزمن في كل من الرواية التقليدية (رواية القرن التاسع عشر)،
والرواية الحديثة، «فالرواية التقليدية تقوم على تطور الحبكة والشخصيات فيما يشبه
سيرة الحياة[4]»،
لذلك نجد أن الزمن فيها يعتمد على الترتيب الكرونولوجي للأحداث، أي يسير بشكل متتابع
ومتسلسل، متقدما في مساره الطبيعي من الماضي نحو الحاضر ثم إلى المستقبل. «أما
رواية القرن العشرين، فتأخذ الزمن موضوعا لها، لا مجرد دليل على نمو الحدث وتطور
الشخصيات فحسب[5]».
وبناءً
على ذلك نجد أن هذا التتابع التاريخي للأحداث في الرواية التقليدية، من شأنه أن
يجعلها مألوفة للمتلقي، حيث يسهل عليه تتبع النص الروائي دونما عناء، لمطابقة
الزمن السردي للزمن الواقعي، فيتمكن بسهولة من التمييز بين عناصر الزمن الثلاثة،
الماضي والحاضر والمستقبل.
أما
الرواية الحديثة فانتقلت بالزمن، من زمن القصة إلى زمن آخر، هو زمن النص، وهذا
الزمن الأخير يتسم بالانحراف وعدم الترتيب؛ ويرجع ذلك إلى اعتماد السارد على
ذاكرته في تشكيل هذا الزمن، حيث لا وجود له إلا في الذاكرة الإنسانية، وهذا ما
أدركه من قبل القديس أوغسطين (Saint-Augustin)
(357- 430 م)[6].
فقد
عالج أوغسطين إشكالية الزمن بالتفصيل في كتابيه الشهيرين: (مدينة الله) (La
Cité de Dieu)، و(الاعترافات) (Les
Confessions). وخاصة في كتابه الأخير الذي يبشر بمفاهيم
أساسية، ويرسي إضافات جوهرية، ظلت تحدد معالم الزمن اللاعقلاني، حتى برزت في
الفلسفة الوجودية المعاصرة[7].
فقد
أشار أوغسطين إلى أن النفس في ذات اللحظة الحاضرة تستحضر الماضي بالذاكرة وتتوقع
المستقبل أو تتنبأ به بواسطة العقل والمخيلة؛ أي أن الماضي والحاضر والمستقبل
تتجمع معا في عين اللحظة الحاضرة بواسطة قوتين أو عمليتين نفسيتين هما الذاكرة
والمخيلة[8].
وهكذا
يؤدي اعتماد السارد على ذاكرته في زمن النص، إلى تداخل الأزمنة من ماضٍ وحاضر
ومستقبل، ومن ثم يصعب على المتلقي تتبع قراءة النص الروائي. حيث إن السارد يحاول
سرد أحداث كثيرة، تجري في القصة في وقت واحد، مما يدفع به إلى تكسير زمن القصة، أو
بمعنى آخر تحريف زمن أحداثها في النص الروائي، والخروج عن ترتيبه الطبيعي.
وهذا
ما أدركه "تودوروف" "Tzvetan Todorov" في النقد الحديث، عندما أشار إلى أن «زمن الخطاب هو، بمعنى من
المعاني، زمن خطي، في حين أن زمن القصة هو زمن متعدد الأبعاد. ففي القصة يمكن
لأحداث كثيرة أن تجري في آن واحد، لكن الخطاب ملزم بأن يرتبها ترتيبا متتاليا يأتي
الواحد منها بعد الآخر[9]».
وهكذا، يصبح زمن القصة مرتبا ترتيبا كرونولوجيا، في الوقت الذي لا يخضع فيه زمن النص لهذا الترتيب، لذلك تأتي عملية القراءة في مرحلة تالية، ليعيد القارئ ترتيب الأحداث مرة أخرى وفقا لهذا الزمن الكرونولوجي.
من
زمن الخطاب إلى زمن النص:
لماذا
زمن النص وليس زمن الخطاب؟ وما هو الفرق بين زمن القصة وزمن الخطاب وزمن النص؟
كلها أسئلة تدور في ذهن الباحث في إشكالية الزمن، طالما أن تحليل الزمن الروائي لا
يتم إلا من خلال المقارنة بين زمن القصة -الذي يمثل الزمن الواقعي "الكرونولوجي"
للأحداث- وزمن النص الروائي، بمشاركة القارئ. لذلك يجدر بنا قبل التطرق إلى تحليل
زمن الروايتين موضوع الدراسة، التعرف أولا على الأنواع المختلفة للزمن الروائي،
والتمييز بينها.
هناك
ثلاثة أزمنة تشكل النص الروائي، وهي: (زمن القصة، زمن الخطاب، وزمن النص).
أ-
زمن
القصة: هو زمن المادة الحكائية في شكلها ما قبل
الخطابي. إنه زمن أحداث القصة كما جرت في الواقع، مرتبا ترتيبا
"كرونولوجيا".
ب-
زمن الخطاب: هو الزمن الذي يظهر في النص
الروائي، والذي يرتب المادة الحكائية (القصة) وينظمها، في إطار العلاقة بين الراوي
والمروي له داخل الرواية.
ج-
زمن
النص: وهذا الزمن له بعدان، البعد الأول
يتجسد من خلال عملية الكتابة، والتي تتم هنا في مرحلتين، أولاهما العملية
التي يقوم بها الكاتب في لحظة زمنية معينة، ينتقل فيها من زمن القصة إلى زمن
الخطاب، أي من زمن خارجي إلى زمن داخلي، وثانيهما هي عملية الكتابة ذاتها،
أي إنجاز كتابة النص، ونستطيع أن نقول إن (زمن النص) في هذه المرحلة هو (زمن
الخطاب)، ولكن بدون إغفال دور الكاتب، الذي "يبني" -أثناء عملية
الكتابة- عالما زمنيا، يتداخل فيه زمن القصة، بزمنيته الخاصة وقت الكتابة، ليشكلا
معا زمن النص. لذلك نعتبر زمن النص أكثر انفتاحا من زمن الخطاب.
أما
البعد الثاني فيتجسد من خلال القراءة، ويُقصد به زمن تلقي النص من لدن
القارئ. وهذا الزمن يتحدد في إطار علاقة القارئ بالنص من جهة، وعلاقة القارئ
بالكاتب من جهة ثانية[10].
ويمكننا
تلخيص ما سبق في التقسيم التالي:
أ-
زمن
القصة: [قبلي وخارجي].
ب-
زمن
الخطاب: [آني وداخلي].
ج-
زمن
النص (البعد الأول: الكتابة): [آني وخارجي/ آني وداخلي].
زمن
النص (البعد الثاني: القراءة): [بَعْدي وخارجي].
وبناءً
على التقسيم السابق، نجد أن الأزمنة الداخلية: تتمثل في (زمن النص) –كما
أسلفنا- كزمن خطابي لا يغفل تأثير الكاتب في زمن قصته. ويعني ذلك أن الكاتب يظل موصولا
بعصره، وتظل وجهات نظره، حتى في تعامله مع الوقائع التاريخية، ملونة بنظرة الزمن
الذي يعيش فيه. فالرواية التاريخية مثلا، تتناول أشخاصا ينتمون إلى حقبة أخرى،
وربما تناولت أيضا حقائق من تلك الحقبة، غير أن كل ما تصفه هو إسقاط على فضائل
العصر الراهن أو رذائله[11].
أما
الأزمنة الخارجية، فتتمثل في: (زمن القصة) كمادة حكائية خام، و(زمن
الكتابة)، ويقصد به (زمن النص) في مرحلته الأولى، أي اللحظة التي يبدأ فيها الكاتب
بإنجاز زمن الخطاب، وأخيرا (زمن القراءة).
وليس
المقصود بزمن القراءة هنا، تلك المدة الزمنية التي تستغرقها عملية القراءة ذاتها،
ولكن المقصود به، هو وضع القارئ بالنسبة للفترة التي يقرأ عنها. فالقارئ يتلقي
النص الروائي في زمن لاحق لكتابته، وهذا الزمن قد يكون قريبا من الوقائع التي يقرأ
عنها في الرواية، وقد يكون الفرق بين الزمنين كبيرا. فإذا كان قريبا، سيكون الأمر
يسيرا على القارئ، حيث تُعيد القراءة بناء النص، وترتيب أحداثه مرة أخرى بسهولة،
مما يجعل تأويله واستبيان قصديته –بالتالي- أمرا يسيرا.
أما
إذا كان الفرق كبيرا بين زمن القراءة وزمن الوقائع التي تتناولها الرواية، فهنا
يتعين على القارئ أن يجهد خياله ليضع نفسه في نطاق الفترة التي تدور فيها أحداث
الرواية، ويزيد هذا الجهد إذا كانت القصة التي يقرأها والأسلوب الذي كُتبت به
لصيقين بعصرهما وأصبحا مع مرور الزمن قديمين. حيث تتولد صعوبة أخرى وهي أن الرواية
سيكون لها بعدين تاريخيين من حيث التأثير والقصد[12].
لذلك أشرنا سلفا، أن زمن القراءة يتحدد في إطار علاقة القارئ بالنص من جهة، وعلاقة
القارئ بالكاتب من جهة ثانية.
1-
زمن
النص:
إن
ما يهمنا في هذه الدراسة -بالطبع- هو تحليل زمن النص كزمن داخلي، ثم الانتقال بعد
ذلك، إلى دراسة زمن القارئ الخارجي، لما له من أهمية في تحليل زمن الشخصية في ضوء
نظرية القراءة.
لكن
في بداية الحديث عن زمن النص، ينبغي الإشارة أولا إلى أنه ينقسم إلى نوعين من
الأزمنة، هما: الزمن الطبيعي، والزمن النفسي.
أ-
الزمن
الطبيعي:
ولهذا
الزمن الطبيعي جانبان يتم تجسيدهما في القصة:
-
الزمن
التاريخي - الزمن الكوني
الزمن
التاريخي: ونعني به استخدام وقائع أو حوادث تاريخية،
تقع في فترة زمنية معينة يختارها المؤلف، لتكون إطارا لقصته، أو خلفية يتم إسقاط
الحياة الخاصة للشخصية الروائية عليها. وقد أشار "إيان وات" "Ian Watt" إلى أن هذا الإسقاط لوقائع تاريخية ما على
حياة الشخصيات الروائية، يعد ملمحا مميزا للرواية الواقعية، في إشارة منه إلى
نماذج من أعمال "دانييل ديفو" "Daniel
Defoe"، حيث تسلل هذا الإسقاط التاريخي إلى الرواية
–من وجهة نظره- كإنعكاس للنتائج التي توصل إليه "نيوتن ولوك" "Newton" -Locke"" بشأن تحليلاتهما للعمليات الزمنية، في أواخر القرن السابع
عشر[13].
ولاستخدام
الزمن التاريخي وظيفتان مهمتان، الأولى إعطاء النص الروائي سمة الحقيقـة،
وهو ما يسميه "رولان بارت" "Roland Barthes" "الإيهام بما هو حقيقي"، والثانية إحداث ترابط
بين الحياة الخاصة للشخصية الروائية والحياة الخارجية العامة المتمثلة في تلك
الأحداث والوقائع[14].
أما
الزمن الكوني: فهو مفهوم الزمن في علم الفيزياء، الذي يرمز إليه بحرف
"ز" في المعادلات الرياضية، وهو كذلك زمننا الشائع (الوقت)، الذي نعرفه
من خلال الساعات والتقاويم وغيرها من مقاييس الوقت. فهو مطابقا للزمن الموجود في
الطبيعة، وليس نابعا من خلفية ذاتية للخبرة الإنسانية[15].
ويلعب
هذا الزمن الكوني أو الفلكي دورا مهما في تصوير الأحداث، حيث ترتبط كل لحظة زمنية
معينة بموقف من مواقف الحياة، ويكون لها –في الغالب- دلالة رمزية خاصة، وهو ما يفسر
لماذا يجعل الكتاب بعض الأحداث تقع (نهارا)، وبعضها الآخر ليلا. فنجد مثلا أن موقف
إظهار الحقيقة ويقظة الضمير يناسب أحداثها أن تقع نهارا (لما فيه من الوضوح
والتفاؤل) كما ترتبط مواقف الظلم بالليل، لما يوحي به من وحشة[16].
وتشير إلى النقطة نفسها "سيزا قاسم" عند تحليلها للزمن في ثلاثية نجيب
محفوظ، عندما توضح ارتباط الحوادث في طبيعتها بالفصول، فمثلا يرتبط الزواج بالصيف
(الخصب)، بينما ترتبط الثورة بالربيع (تجدد الحياة).... إلخ. هذا وتمثل حركة الشمس
في السماء تحديدا للمواقيت.
المصدر: بنــاء
الشخصيــة في روايتي «ابتسامة الجدي» لدافيد جروسمان و«المتشائل» لإميل حبيبي، دراسة
في ضوء نظرية التلقي، رسالة دكتوراه غير منشورة، إعداد: رشا عبد الحميد محمد، كلية
الألسن، جامعة عين شمس، 2011
[1] سيزا قاسم، بناء
الرواية، ص38.
[2] المرجع السابق، ص38.
[3] هانز ميرهوف، الزمن في
الأدب، تر: أسعد رزق، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، بالاشتراك مع مؤسسة فرانك لين
للطباعة والنشر، ط 1972، ص9.
Hans Meyerhoff, Time in Literature, University
of California Press, USA, Berkeley & Los Angeles, 1955, P.5.
[4] أمينة رشيد، تشظي الزمن
في الرواية الحديثة، ص7-8.
[5] المرجع السابق، ص8.
[6] أمينة رشيد، تشظي
الزمن في الرواية الحديثة، ص8.
[7]
يمنى طريف الخولي، إشكالية الزمان في الفلسفة والعلم، مجلة ألف، العدد التاسع،
1989، عدد خاص عن إشكاليات الزمان، ص38- 39.
[8]
المرجع السابق، ص39.
[9]
تزيفيتان تودوروف، مقولات السرد الأدبي، تر: الحسين سحبان وفؤاد صفا، ضمن كتاب:
طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ط1، 1992، ص55.
[10] راجع: سعيد يقطين،
انفتاح النص الروائي، ص49، 50.
[11]
أ. أ. مندلاو، الزمن والرواية، تر: بكر عباس، دار صادر، بيروت، ط1، 1997، ص103-
104.
A. A.
Mendilow, Time and the Novel, London, Peter Neville, 1952. (Time Locus of the
Writer, p. 87- 89.
[12]
المرجع السابق، ص101- 102.
A. A.
Mendilow, Time and the Novel, (Time Locus of the Reader, p. 86- 87.
[13]Ian Watt, The Rise of the
Novel, University of California Press, USA, Second American Edition, 2001, By:
W. B. Carnochan, p. 24.
[14]
سيزا قاسم، بناء الرواية، ص72.
[15] هانز ميرهوف، الزمن في
الأدب، ص11.
Hans Meyerhoff, Time in Literature, P.5.
[16] طه وادي، دراسات في نقد الرواية، درا المعارف، ط 3، 1994، ص35- 36.
