موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية

 


الخلق كلمة تستعمل للدلالة على قدرة الله في الخلق، وهى لا تشمل الخلق الأول من العدم فحسب، بل تشمل كذلك خلق العالم والإنسان وكل ما هو كان وكل ما سيكون.[1]

الخلق من عدم:

عرف المتكلمون المسلمون، عبر مصادر متنوعة، نظريات مختلفة عن أصل العالم. ولكن من أكثر النظريات التى حظيت بالقبول عندهم، هى نظرية الخلق من عدم والتى توصف أيضاً بنظرية "الخلق لا من شىء"، وتعزى هذه النظرية إلى من يعترفون بوحدانية الله[2]. هذا على عكس النظرية السابقة والتى كانت سائدة لدى آباء الكنيسة وفيلون، والتى تذهب إلي أن الخلق من مادة قديمة[3]. وكذلك وجدت إشارات في الأدب الأجادي اليهودي إلى أن الخلق كان من شىء ما.[4]

ولكن مع ظهور الفلسفة اليونانية المترجمة وظهور نظرية الخلق من عدم، الذى ترجمه المسيحيون السريان على أنه يعنى "اللاشىء"، قبل متكلمو الإسلام بهذا الرأى لأنه يوافق تصورهم لإظهار قدرة الله المطلقة، كما أيد هذا الرأى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شىء غيره"[5]، ولهذا أيضاً رفض هؤلاء المتكلمون نظرية أرسطو في القول بقدم العالم لأنها لا تتفق مع عقيدتهم التى تعتمد على القرآن الكريم.

        وما يؤكد ذلك شهادة البغدادي (ت 429هـ- 1037م) الذى يحتج في كتابه "الفرق بين الفرق" باعتقاد المعتزلة بأن الله خلق الخلق "من لاشىء" ولذلك "فإنه يصح القول بأنه خلق الشىء لا من شىء على أصول أصحابنا الصفاتية الذين أنكروا كون المعدوم شيئاً"[6]  

        ولأن سعديا يتبع الدعوة إلى وحدانية الله، فقد اتبع نظرية الخلق من لا شىء، مثل المتكلمين المسلمين، وتصدى لمن قالوا بأن الكون جاء من شىء. يقول سعديا: "فالأولون يقولون لا يجوز أن يكون شىء لا من شىء ويجوز أن يكون المكان والزمان والمتمكن مادين بلا نهاية والأمر بعكس ذلك لا يجوز أن يكون الزمان والمكان والمتمكن غير متناهين ويجوز أن يكون شى (شىء) من لا شى (شىء)"[7]

        ونلاحظ أن سعديا استخدم للدلالة على صيغة "من العدم" التعبير العربي الشائع "لا من شىء" المساوي لـ "לֹא מדבר" في اللغة العبرية.

أدلة الخلق:

1-   دليل التناهي:

يقوم هذا الدليل على مقدمات ثلاث وهى:

المقدمة الأولى: العالم متناه في العظم.

المقدمة الثانية: القوة الموجودة في العالم، تلك التى تحفظ عليه وجوده قوة متناهية.

المقدمة الثالثة: قوة متناهية كهذه لا يمكن أن تُحدث وجوداً لا متناهياً.

    من هذه المقدمات الثلاث يستدل سعديا على وجوب أن يكون للعالم بداية ونهاية وأنه يوجد عالم واحد، فيقول: "ثم لوقوع البصر على أقطار متناهية وأبعاد محصورة"[8]، وكذلك قوله: "إن السماء والأرض لما صح أنهما متناهيان بكون الأرض في الوسط ودوران السماء حواليها وجب أن تكون قوتهما متناهية إذا لم يجز أن تكون قوة لا نهاية لها في جسم له نهاية فيدفع بذلك المعلوم فإذا تناهت القوة الحافظة لهما وجب أن يكون لهما أول وآخر"[9].

وقد صاغ المعتزلة هذا الدليل في عدة نقاط، وهي[10]:

أ- لو لم يوجد الجوهر الفرد لكان الماشي الذى يقطع مسافة متناهية يقطع ما لا نهاية له، لأن هذه المسافة تقبل القسمة إلى غير نهاية.

ب- لا بد أن يلي الجرم من الجرم الذى يليه جزء ينقطع ذلك الجرم فيه.

ج-الله هو الذى ألف أجزاء الجسم، فهل يقدر على تفريق أجزائه حتى لا يكون فيها شىء من التأليف ولا تتحمل تلك الأجزاء التجزؤ أم لا يقدر؟ إن قيل: لا يقدر، كان في ذلك تعجيز لله، وإن قيل نعم يقدر، ففيه إقرار بالجزء الذى لا يتجزأ.

د- لو كان لا نهاية للجسم في التجزؤ لكان في الخردلة من الأجزاء التى لا نهاية لها مثل ما في الجبل.

هـ- علم الله يحيط بكل شىء وهذا يحتم أن يعلم عدد أجزاء الجسم، فالأجزاء متناهية.

2- دليل المماثلة بين الأشياء في العالم:

هذا الدليل يبدأ بافتراض: وهو أن العالم وجد بعد أن لم يكن موجوداً، وعن طريق المماثلة بين الأشياء الموجودة في العالم، تلك التى وجدت كلها عن علة من العلل دائماً، ثبت أن العالم ذاته وجد من علة تسمى الخالق. يقول سعديا في هذا الإطار: "إنما احتجنا إلى أن يعرفنا كيف كان ابتداؤها لأنه لم نشاهد نباتاً إلا عن نبات فعرفنا أن أصله كان اختراعاً، ولم نشاهد حيواناً إلا عن حيوان وعرفنا أوله كيف كان، ولم نشاهد إنساناً ذكراً ولا أنثى إلا عن ذكر وأنثى مجتمعين فعرفنا أن الذكر الأول خلق من التراب والأنثى الأول من ضلع...منها من يشاهد حوة مخلوقة من بعده وسيما من ضلعه..فلا يشك في أنه هو مخلوق مثلها إذ الجنس واحد".[11]

    وهذا التدليل هو نفس التدليل الذى قدمه الشهرستاني منسوباً إلي أبى الحسن الأشعري فيقول: " يبدأ أبو الحسن فيبين كيف أن حدوث الإنسان وتكونه من نطفة أمشاج وتقلبه في أطوار الخلقة لا يمكن تفسيره بإرجاعه إلى الإنسان نفسه أو إلى أبويه أو إلى الطبيعة، بل بالأحرى إلى صانع قديم قادر عليم وينتهي إلى أن ما ثبت من الأحكام لشخص واحد أو لجسم واحد ثبت في الكل في الجسمية. وبذلك فهناك خالق واحد وهذا العالم مخلوق".[12]

3-دليل حدوث الأعراض المكونة لأجزاء العالم:

ثبت فيما سبق على صفحات هذا البحث أن حدوث العالم يستند إلى أن الأجسام لا تخلو من الأعراض "والأعراض حوادث أى أن لها بداية ونهاية وما لا يخلو من الحوادث لا بد أن يكون حادثاً".[13]

وقد أثبت الباقلاني ذلك من خلال مقدمات ثلاث هي:[14]

أ‌-      أن الأعراض توجد.

ب‌- أن الأعراض حوادث، أى أن لها بداية ونهاية. والدليل على حدوثها بطلان الحركة عند مجىء السكون.

ج‌- الأجسام حادثة والدليل على حدوثها أنها لم تسبق الحوداث (الأعراض) ولم توجد قبلها، وما لم يسبق المحدث محدث.

وقد استخدم سعديا عرض الحركة التى اعتبرها من الأعراض الحادثة ليدحض فكرة التعاقب بلا نهاية، فقد رأى أن التفاوت والاختلاف بين الحركات سواء من حيث السرعة والبطء دليل على تناهيها وبالتالي على حدوثها.[15]

ومن هذا نستخلص نتيجة مهمة، وهى أن سعديا كان ممن يرفضون المذهب الذري.

فسعديا لم يشر إلى أن الجسم الذى يستخدمه هو جسم يفترض تكوينه من ذرات، بل على أساس أن الأجسام غير مركبة من ذرات. فرفض القول بالمذهب الذري واعتبر أن الأجسام هى أصل الأشياء.

1-   دليل استحالة التعاقب بلا نهاية:

يعتمد هذا الدليل على جزأين هما:

الأول: تناهي الزمن، وقد سبقت الإشارة إلى هذه الجزئية.

الثاني: يعتمد على أن كل ما احتمل الزيادة والنقصان هو متناهي القوة، والتناهي يوجب الحدث واختلاف الحركات وتفاوتها دليل التناهي والحدث.

        يقول سعديا: "ما وجه الحكمة في أن الكواكب لم تخلق مع السما (السماء) من أول. ونقول ليلا (لئلا) نتوهمها قديمة. وموضع الاعتبار أن العناصر الأربع معما (مع ما) يشاهد فيه من التغيير والحدث قد توهمها قوم قديمة بشبهةהָאֶרֶץ היתָה فكيف هذه الكواكب التى هى كأنها جوهر خامس معتدل لا يزيد ولا ينقص بالحرى لو خلقها أولاً لتوهموها قديمة. ثم لم خلقها كثيرة فنقول أيضاً ليبطل عبادتها حتى نشاهد بعضها يكسف بعضاً وبعضها يمنع بعضاً فعله".[16]

        ثم يقول عن الحركة: "وقوله "הַמּוֹצִיא בְמִסְפָּר צְבָאָם; לְכֻלָּם, בְּשֵׁם יִקְרָא"[17], يريد به الكواكب الثابتة التى حركتها كلها واحدة. وقال هناك "מוֹנֶה מִסְפָּר, לַכּוֹכָבִים" [18]يشير إلى الكواكب السيارة التى لكل واحد منها حركة مفردة أو حركات. والثالث ليلا (لئلا) نعبد شى (شيئاً) منها إذا صح عندنا أنها محدثة مسواة مقهورة، والثالث لنصدق بالآيات التى سيصف لنا أنه صنع فيها من وقوف النورين ليهوشع..وإنما كان ذلك بوقوف الفلك المحرك من المشرق...  وليس يظهر لعيون الناس إلا الحركة المشرقة لسرعتها فتخفا معها جميع الحركات ومن رجوعه عشر درجات لحزقياهو... ومن إفراطها في الحما على جنود العدو فنقول لا شك في أنه قدر على إحداثها يقدر على أن يصنع بها هذا الصنيع وأكثر منه..."[19]

        وقد استند سعديا في هذا المبدأ إلى نفس ما استند إليه "الجويني" في أن اللامتناهي لا يمكن قطعه، على نحو ما قرره "النظَّام" في أنه لا يمكن لشىء أن يوجد لو كان وجوده مسبوقاً بعدد لا متناه من العلل.

        فيقول الجويني: "فإنا نفرض القول في الدورة التى نحن فيها ونقول: من أصل الملحدة أنه انقضى قبل الدورة التى نحن فيها دورات لا نهاية لها، وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن يتصرم بالواحد على أثر الواحد فإذا انصرمت الدورة التى قبل هذه الدورات إذن انقضاؤها وانتهاؤها بتناهيها".[20]

2-   دليل التخصيص:

اتخذ سعديا من اختلاف الحركات دليلا على الحداثة وانطلق من هذا لإثبات وجود فاعل ومخصص هو الذى قام بالتمييز بينها، وذلك يدحض فكرة الاتفاق والمصادفة في خلق العالم، ويعنى أن هناك خالقا هو الذى خلق الأشياء بقصد وإرادة حرة. فالاجتماع بين هذه الأشياء المتناقضة يدل على علة فاعلة وغاية من وراء هذا الاجتماع والتركيب. يقول سعديا: "حكيم قادر يخترع كل ما يريده بإرادته"[21]. كما يقول أيضاً "إلا البارى (البارئ) ابتدعا (ابتدع) فكما شاء الله كون النبات كانت الأشياء المختلفة صورها في الطول والعرض والاستدارة والمختلف مقاديرها... والمختلفة ألوانها وطعومها.., والمختلف زمان نموها وبلوغها.., وكان ذلك كله في أبدع وقت على تمامه..لمصلحة الناس ومنافعهم"[22].

فالحكمة التى يربطها سعديا دائماً بفعل الخلق، والتى كانت هى الغاية التى من أجلها وجدت الموجدات، لتدل على أن فعل الخلق الإلهي يتصف بالحرية والمباشرة، وأن هذا الفعل وقع بناءً على غاية محددة سلفاً. يقول سعديا: "فيكون إنما عاد بالإشارة بالهاءات إلى ما كان في تقديره وفي حكمته...ففصح بـأنهما جميعاً خلقا في أقل أن تكون من الزمان... فالكل يبتدى دفعة ويكمل دفعة"[23].ثم يقول في موضع آخر: "فإنه تعالى أوجدهما وجود كلي (وجوداً كلياًّ) أعنى على صفة الكمال في دفعة واحدة...وكما أوجبت الحكمة أن يوجد لمنفعه أوجده على كمال نفعه... وما خلقه الله نفعاً جعله لهم نفعاً وعلمهم خواصه ومنافعه..."[24].

وكذلك اتخذ الجويني هذا الدليل كدليل تكميلي يلحق بدليله على حدوث أعراض الجواهر واستحالة التعاقب بلا نهاية ليبرهن على أن لخالق العالم إرادة حرة، فإذا ثبت حدث العالم وتبين أنه مفتتح الوجود فالحادث جائز وجوده وانتفاؤه وكل وقت صادفه وقوعه كان من المجوز تقدمه عليه بأوقات ومن الممكن استئخار وجوده عن وقته بساعات. فإذا وقع الوجود الجائز بدلاً من استمرار العدم المجوز قضت العقول ببداهتها بافتقاره إلى مخصص يخصصه بالوقوع في وقت معين. ثم يتعين بعد ذلك القطع بأن مخصص الحوادث فاعل لها على الاختيار ومخصص بإيقاعها ببعض الصفات والأوقات، فالله (المخصص) الذى أحدث العالم في وقت مخصوص فضله على وقت آخر ممكن، لا يفعل ما يفعله بالضرورة وإنما يفعل بمشيئة حرة.[25]

نظرية الجزء الذى لا يتجزأ:

        كان نتيجة لرفض سعديا للمذهب الذري رفضُه كذلك لفكرة الجزء الذى لا يتجزأ، وقد استند في رفضه هذا إلى أن اللامتناهي لا يمكن أن يكون له وجود فعلىٌّ وأن تجزئة وقسمة الأشياء إلى ما لا نهاية، تكون له مصداقية في حالة واحدة، وهى حالة القوة لا الفعل. يقول سعديا: "أما بعد فإن جميع الموجودات وإن كانت لا تحصى كثرة فإنها راجعة إلى قسمين وهما عناصر ومركبات. فأما العناصر فهي أربعة وهى النار والهوا (الهواء) والماء والتراب ومنهم تركبت جميع الأشيا (الأشياء)، وهم باقيين لا يفنون إلى الوقت الذى أوجبت الحكمة...وأما ما نشاهده في زماننا من فنا (فناء) الجزويات (الجزئيات) منهم ومن المركبات أيضاً فليس ذلك بأكثر من تفريك أجزا (أجزاء) وإعادة العناصر بعضه إلى بعض".[26]

        وقد اختلف العلماء المسلمون حول فكرة الجزء الذى لا يتجزأ فأنكره "النظَّام" ووافق عليه "العلَّاف" الذى سلم بوجود الذرات[27]. وجاء رفض من اعترضوا على فكرة الجزء الذى لا يتجزأ لرفضهم قابلية انقسام المادة إلى ما لا نهاية على أساس أن اللامتناهي لا يمكن لله معرفته، في حين أن من أيدوا الفكرة رأوا أن الجسم يجوز أن يفرقه الله سبحانه وتعالى ويبطل ما فيه من اجتماع حتى يصير جزءا لا يتجزأ[28].

وقد اتفق سعديا رغم اختلافه مع من يعتقدون بالجزء الذى لا يتجزأ في أن الأعراض تحل بالجواهر مثل اللون والطعم والرائحة، فيقول: "والجواب كما ينقل البارى (البارئ) أعراض الجواهر في الأوقات الذى يحدث فيه معجزات ليومن (ليؤمن) خلقه وذلك كما نقل الما (الماء) فجعله دماً. فإن بعض أهل النظر يقولون أفنا (أفنى)  الماء وأحدث دماً ثم أفنا (أفنى) الما (الماء) الدم وابتدى ماء... ولكنا نقول رفع عن الما (الماء) أعراض الما (الماء) كلها بياض لونه وطيب رايحته (رائحته) ولذة طعمه وترك الرطوبة بحالها فأحدث فيها أعراض الدم، حمرة لونه ونتن رايحته (رائحته) وكره طعمه حتى صح الانقلاب"[29]

وكما هو الحال في الماء والدم، كذلك كان الحال في العصا والثعبان، يقول سعديا: "وكما نرد عليهم أيضاً في عصا هارون فإنهم يقولون أفنا (أفنى) الله الخشب وأحدث حيوانه ثم أفنا (أفنى) الحيوان وابتدى الخشب...ويبطل هذا القول لأنه يبطل الانقلاب. ولكنا نقول رفع البارىء عن العصا أعراض الخشب كلها وترك الجوهر بحاله وأحل فيه مكانها أعراض الحيوان وبذلك ما تم الانقلاب"[30]

وقد اختلف علماء الكلام المسلمون حول هذه المسألة فمن ناحية زعم "العلاف"[31] و"الفوطي"[32] و"أبو هاشم الجبائي"[33] أنه يستحيل أن تخلو الجواهر الحادثة من الأعراض مثل اللون والطعم والرائحة وما إلى ذلك. ومن ناحية أخرى زعم "الكعبي"[34] أن الجواهر يمكن أن تخلو من كل الأعراض فيما عدا اللون.

نظرية الكُمون عند سعديا:

        آمن سعديا بنظرية الكُمون والظهور فرأى أن الخلق، حتى لو كان في ستة أيام، إلا أنه جاء دفعة واحدة. يقول سعديا: "ولما قال ههنا אֶת השָמַיִם ואֶת הָאֶרֶץ (الأرض والسماء)...ففصح بأنهما جميعاً خلقاً في أقل أن تكون في الزمان زال ما كان يظنه الظان أن خالق السماوات لم يخلق الأرض وليس ببعيد أن يكون المحيط والمركز جميعاً ابتديا لأنا كذاك نشاهد جميع الأجسام تبتدى. أما النبات فليس يسبق قشرها للحمها لنواتها لقمعها...بل الكل يبتدى دفعة ويكمل دفعة...وقوله إن الله خلق الأرض وهى فليس من أول ما خلقها اسمها אֶרֶץ (أرض)، وإنما سميت كذلك في اليوم الثالث بعد ما كشف الما (الماء) عنها...ولكنه يعنى أنه خلق المكان الذى يسميهאֶרֶץ (أرض)"[35].

        فسعديا يبين من خلال الفقرة السابقة أن السماوات والأرض لم تخلق خلال الأيام الستة بل خلقت في أول يوم ولكنها سميت وأصلحت وظهرت عليها علامات الحياة خلال الأيام الستة فالوجود خلق كله دفعة واحدة كاملاً، فيقول: "فإنه تعالى أوجدهما وجود كلي (وجوداً كلياًّ) أعنى على صفة الكمال في دفعة واحدة لم تشنو شىء (شيئاً) بعد شىء...فكان ذلك في دفعة واحدة...وكما أوجبت الحكمة أن يكون إنما أوجده على كمال القدر الذى تنتهى إليه..."[36]

        أما ما نشاهده من تغير وإحداث وأعراض أخرى في المخلوقات فهو ليس إلا ظهوراً لا خلقا من جديد يقول: "وأما ما نشاهده في زماننا من فنا (فناء) الجزويات (الجزئيات) منهم ومن المركبات أيضاً فليس ذلك بأكثر من تفريك أجزاء وإعادة العناصر بعضها إلى بعض....وأما ما نشاهده في زماننا فهو مثل النار التى تفنى الحطب وليس ذلك بأكثر من تفريك أجزائه وإعادة كل عنصر لعنصر"[37]

        وقد اتبع سعديا في هذه النقطة رأى "النظَّام" في أن الخلق جاء دفعة واحدة ثم لم تخلق الأشياء كلها في وقت واحد فحسب، بل إن كل الأشياء المخلوقة هكذا احتوت في ذاتها على كل أنواع الأشياء التى من شأنها أن توجد في المستقبل. وبما أن كل الأشياء كامنة في الأشياء المخلوقة وقت خلق العالم، فإن ظهور أى من هذه الأشياء من مكمنها يجب اعتباره ظهوراً فحسب، وليس شيئاً راجعاً إلى فعل من أفعال الخلق والاختراع.[38] 

        ورغم أن سعديا وافق "النظَّام" في نظرية الكُمُون رغم معارضة الغالبية لها، فإنه عارض نظريته في الطفرة[39]، حيث يزعم "النظَّام" أنه قد يجوز أن يكون الجسم الواحد في مكان ثم يصير إلى المكان الثالث ولم يمر بالثاني على جهة الطفرة.[40]

        ولكن من ناحية أخرى رفض سعديا أيضاً "كالنظَّام"، الاعتقاد السلفي بالخلق المستمر الذى يكون بموجبه كل تغير في شىء من الأشياء فعلاً جديداً من أفعال الخلق الإلهي، بل هو علاقات سببية فعلية بين السبب ونتيجته والظاهرة وعلتها، ومن هنا كان سعديا من المؤمنين بالسببية الطبيعية.[41]

        ومن الأسباب التى جعلتنا نقول إنّ سعديا قال بالسببية الطبيعية إنه قال بالطبع في الموجدات والاختلاف وارد بقدرة الله وحكمته، فيقول: "كما أن النار تحرق بطبعها ولا تبرد والثلج يبرد بطبعه ولا يحرق. ولكنه جعلها مختلفة لنعلم أنه يفعل الشىء وضده".[42]

        ويقول في موضع آخر: "وأقول إن عادة الطبع ليست بعقوبات وإنما تكون عقوبات الحوادث الخارجة عن الطبيعة...فمن ذلك لا يقال أعمي لمن لا يبصر بقفاه ولا يقال أبكماً لمن لا يتكلم بأذنه ولا أصماً لمن لا يسمع بيده لأن هذه الأعضا (الأعضاء) كذى طبعها ألا تبصر ولا تتكلم ولا تسمع... وإنما يقال ذلك للأعضا (للأعضاء) المطبوعة على ذلك إذا أحدث فيها حادث غريب فيسمي الما (الماء) كذاك من طبعه الانسياب..."[43]

        وكما اتبع سعديا "النظَّام" في القول بالسببية، اتبعه في القول بالطبع أيضاً، يقول النظَّام: "إن ما حدث في غير حيز الإنسان فهو فعل الله سبحانه بإيجاب خلقه للشىء، كذهاب الحجر عند دفعة الدافع وانحداره عند رمية الرامي به وتصاعده عند زجة الزاج صعداً... ومعنى ذلك أن الله سبحانه طبع الحجر طبعاً إذا دفعه دافع أن يذهب وكذلك سائر الأشياء المتولدة[44]، فالطبع على هذا عند النظام مجرد أداة تفعل فعلها بأمر الله. ولكن الله قادر أن يغير بقدرته هذا الطبع ليصبح معجزة.[45]

        فالطبع هو مبدأ قوانين السببية، وإنكار لمبدأ الصدفة، فالعالم محكوم بقوانين سببية أودعها الله فيه وقت خلقه وهى تعمل بتدبيره تعالى وتخضع لإرادته.

        ومن هنا نصل إلى فكرة الغائية فنظم هذا العالم وترتيبه وفعله أعظم دليل على إتقان التدبير ومع كل تدبير مدبر ومع كل حكمة حكيم.

والغائية عند سعديا تعنى التفاؤل بمعنى أن العالم يسير وفق خطة محكمة وأن الشر عرض زائل، فكل المخلوقات في وجودها عاجزة ومفتقرة دائماً إلى موجدها[46]، فالعالم لا يثير عبثاً، بل إن الخلق كله جاء لإظهار الحكمة الإلهية ولصالح المخلوقات[47].

        واتفقت غالبية المعتزلة على ذلك فرأت أن الخير باقٍ أما الشر عرض[48] لا يتعارض مع الغائية النهائية للخلق، وهى أن الخلق جاء من أجل منفعة الخلق وذلك حتى يتوافق مع مبدأ العدل الإلهي لأن الله لا يفعل إلا خيراً والشر من البشر.[49]

 



[1] - دائرة المعارف الإسلامية. نقلها للعربية أحمد الشنتاوي، إبراهيم زكى خورشيد، عبد الحميد يونس، حافظ جلال. 1933. المجلد الثامن. صـ 409.

2- ابن حزم: الفصل.ج5. صـ 157، 158.

[3] - هارى ولفنسون: فلسفة المتكلمين. ترجمة مصطفي لبيب عبد الغني. المجلس الأعلي للثقافة. المشروع القومي للترجمة.2005. ط1. صـ 488.

[4]-المرجع السابق: صـ488، فقد رأى بعض اليهود أن תהו ובהו كانت هى المادة الموجودة وقت الخلق وهى مادة ليس لها شكل أو لون أو جسم أو روح ولم تكن عدماً بل تفتقر للشكل. فحاول سعديا دحض هذا الرأى بالتفريق بين العماء والعدم وبيان أن العماء هو مرحلة لاحقة على عملية الخلق لا سابقة عليها . سعديا جاءون: الأمانات والاعتقادات. صـ 57، تفسير سفر الأمثال. صـ 186، 187.

[5] - صحيح البخارى: كتاب بدء الخلق .ج4. صـ 129.

[6] - البغدادي: الفرق بين الفرق . دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1985. ط1. صـ 79، 80.

[7] - مقدمة تسوكر للتفسير: صـ 34.

[8] - المرجع السابق: صـ 5.

[9] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 31.

[10] - حنا الفاخوري: تاريخ الفلسفة العربية. ج1. صـ 158.

[11] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 65، 66.

[12] - الشهرستاني: نهاية الأقدام في علم الكلام. تحقيق ألفرد جيوم. مكتبة الثقافة الدينية.  1948. صـ 11، 12.

[13] - مقدمة سعديا لتفسير سفر التكوين: صـ 5.

[14] - الباقلاني: التمهيد. صـ 17- 23.

[15] - مقدمة سعديا لتفسير سفر التكوين: صـ 5.

[16] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 37.

[17] - "من الذى يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء". سفر أشعيا (26:40).

[18] -  "يحصى عدد الكواكب يدعو كلها بأسماء". سفر المزامير ( 4:147).

[19] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 40،41.

[20] - الجويني: الإرشاد. صـ 26.

[21] - مقدمة سعديا لتفسير سفر التكوين: صـ 21.

[22] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 34.

[23] - المرجع السابق: صـ 27.

[24] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 36.

[25] - الجويني: الإرشاد. صـ 8 ،21، 28، 29.

[26] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 30.

[27] - الأشعري: مقالات الإسلاميين. صـ 59، 318.

[28] - المرجع السابق : صـ 314.

[29] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 70.

[30] - المرجع السابق: صـ 70.

[31] - الأشعري: مقالات الإسلاميين. صـ 314.

[32] - أبو هشام بن عمرو الفوطي كان في عصر المأمون (813- 833م) الأشعري: مقالات الإسلاميين. صـ 315.

[33] -المرجع السابق: صـ 311.

[34] - أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي توفي 317هـ.

[35] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 27.

[36] - المرجع السابق: صـ 36.

[37] - المرجع السابق: صـ 30.

[38] - هارى ولفنسون: فلسفة المتكلمين. ج2 . صـ 652.

[39] - فيقول سعديا: "والتجأ بعض الناظرين إلى القول بجزء لا يتجزأ وبعضهم قال بالطفرة وبعضهم قال بوقوع أجزاء كثيرة على أجزاء كثيرة فتبينت هذه الطعن فوجدته تمويهاً من أجل أن يجزء الشىء بلا نهاية إنما يقع لنا وهماً". سعديا جاءون: الأمانات والاعتقادات. صـ 39.

[40] - الأشعري: مقالات الإسلاميين. صـ 321.

[41] - انظر سعديا جاءون: تفسير لسفر التكوين. صـ 7، 30، 31.

[42] - المرجع السابق: صـ 44.

[43] - المرجع السابق: صـ 77.

[44] - الأشعري: مقالات الإسلاميين. صـ 404.

[45] - البغدادي: الفرق بين الفرق .صـ 69، 97، 101، 103.

[46] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 26.

[47] - المرجع السابق: صـ 34، 36، 53، 54.

[48] - الأشعري: مقالات الإسلاميين: صـ 245.

[49] - المرجع السابق: صـ 247.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button