موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية انعكاس قضايا الفكر العربي الإسلامي في تفسير سعديا جاءون للتوراة - قضية الجدل الديني

انعكاس قضايا الفكر العربي الإسلامي في تفسير سعديا جاءون للتوراة - قضية الجدل الديني


كان الجدل السمة الغالبة على هذا العصر عند تناول القضايا الفكرية والحسم فيها، وقد كانت المعتزلة أبرع الفرق في الجدل نظراً لأنها جعلت منه منهجاً له قواعده وسماته، لذلك لم يجد سعديا أمامه إلا هذا المنهج ليتجادل مع كل التيارات المناهضة له سواء من داخل اليهودية أم خارجها. ومن طرق الجدل التى استخدامها سعديا وكانت أهم طرق الجدل عند المعتزلة:

1- طريقة القسمة العقلية:

ومعناها تقليب الأمر على وجوهه الممكنة بحيث لا يبقى وجه يحتمله العقل إلا وتُعتبر، وبها يتقصى المرء جميع الحالات الممكنة بحيث لا يدع احتمالاً واحداً ممكناً إلا طرحه للبحث والنظر.[1]  وقد استخدم سعديا هذه الطريقة في رده على أحد القرائين وهو بنيامين النهاوندي الذى رأى أن الله خلق ملاكاً كلفه بخلق العالم، يقول سعديا: "إذ واحد من أمتنا صرف هذه القصة إلى ملك من الملايكة (الملائكة) لأنه تحير في " נַעֲשֶׂה אָדָם בְּצַלְמֵנוּ כִּדְמוּתֵנוּ" ومحال عنده أن يرجعان (أن يرجعا) إلى الله فردهما إلى الملائكة، فتفسير נַעֲשֶׂה אָדָם وقال الملك نخلق آدم ولذلك قال بصورتنا كشبههنا لأن آدم شبه الملائكة- ثم رأى أنه إذا جعل خالق آدم ملكاً لم يلتئم له ذلك إلا أن يقول كان خالق البهايم (البهائم) والسباع أيضاً ملك لأن الأشياء بعضها يتلو بعض.. وهذا القول في غاية الخطأ من المعقول ومن المكتوب ومن المنقول. فأما من المعقول فإن الاختراع لو جاز من مخترع أعنى من مخلوق لجاز أن يعطى الله الناس أيضاً قوة أن يخترعو ويخلقو إذ لا فرق بين الناس والملائكة في باب أنهم محدثين مخلوقين (محدثون مخلوقون) بل جاز أيضاً لكل من له فعل من سائر الحيوان بل من سائر الجماد، وأيضاً أن كان أثر الحدث والتأليف دليلاً للملك على أنه خلق فأين دلائل الله جل جلاله وهذا القول أهون من أن نطنب في رده".[2] 

وهناك طريقة ثانية من القسمة العقلية يتقصى فيها المرء كل الحالات الممكنة، ثم يتتبعها مبرهناً على فسادها، حيث يحصر كل أوصاف الموضوع الذى يجادل فيه، ثم يبين أنه ليس في أحد هذه الأوصاف خاصية تسوغ قبول الدعوى فيه فتبطل دعوى الخصم عن طريق هذا الحصر[3]، ويصاغ هذا النمط غالباً في صيغة استفهام يوجه للمخالف لا تحتمل إجابته سوى وجهين، ثم يتم البرهنة على بطلان الإجابتين.

وقد استخدم سعديا هذا النمط في الرد على النصارى في قضية التثليث والاتحاد، فيقول: "على سبيل ما تقدم من تفسير بصورتنا كشبهنا يحتج النصاري بهذا القول لمذهبهم في التثليث وأنه لو كان البارئ واحد ليس بذو أقانيم.. فيقال لهم أتقولون أن في هذه القصة ألفاظ (ألفاظاً) مجازية أم جميع ألفاظها محكمة.. فإن قالو إنها محكمة لزمها أن يقولون (يقولوا) إن آدم على صورة الله على الحقيقة فيكون البارئ على قولهم لحم ودم وعظام وغير ذلك، وهذا ما لا يقول به أحد ويلزمهم أيضاً أن يقولوا إنه ذكر وأنثى...فلا بد من الإقرار بضرورة أن في هذه القصة ألفاظ (ألفاظاً) مجازية وأن ليس ههنا صورة حقيقة ولا شبه حقيقي وإنما هو صورة فعل وشبه فعل".[4]

2-الإلزام:

    وهو عبارة عن إلزام الخصم موقفاً شنيعاً يصعب عليه الرضى به والاعتراف بتبعاته وهو يحرك في نفوس الخصوم وعقولهم العوامل التى تدعوهم إلى إعادة النظر فيما يقولون.[5]

ويرد سعديا بهذه الطريقة على من قالوا بالتجسيد والتشبيه لقوله في التوراة خلقنا آدم كصورتنا كشبههنا (كشبهنا)، فيقول: " والثالث من رد هذا القول إلى رب العالمين كما نرده نحن ولم يجعل الصورة صورة جسم...فمنهم قالو إنما أراد بذلك صورة صورها وشبه يشبهه..فلو كان التفسير على هذا لكانت البهيمة أيضاً  בצֶלֶם אלֹהִים على طريق أن الله صورها ووجب القتل على من قتل البهيمة... وكان الشجر أيضاً בצֶלֶם אלֹהִים على معنى أن الله صوره ووجب القتل أيضاً على من قلع شجرة...وكان الجبل أيضاً בצֶלֶם אלֹהִים على معنى أن الله صوره ووجب القتل على من قلع منه حجاراً هم بهذه العلة وهذا كله فاسد"[6]

3- التسليم الجدلي للخصم:

        والأصل في هذه الطريقة أن يفرض المجادل المحال إما منفياًّ أو مشروطاًّ بحرف الامتناع، ليكون المدعى ممتنع الوقوع لامتناع وقوع شرطه، ثم يسلم وقوعه تسليماً جدلياًّ، ويدل على عدم فائدة ذلك على تقدير وقوعه[7]، وقد استخدم القرآن الكريم هذه الطريقة في مثل قوله تعالى:" مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ "[8].

        وقد استخدم سعديا هذه الطريقة في الرد على الثنوية التى قالت بإلهين نور وظلام، فيقول: "وقوله וחוּשֶךְ يريد به الهواء لأن الظلام ليس هو جسم كما توهم الكذابون ذوى الاثنين وإنما هو الهواء فإن كان نور حتى يداخل الهواء يصير لونه واضحاً وإن لم يكن نور يصير لونه أسود. ومما يدل على صحة قولنا هو أن النور أنه من جسم يقبله الهواء الأسود فيزيل سواده. والظلام لأنه ليس من جسم لا يقبله الهواء فيه المنير فيزيل به نوره. بل إنما يعود إلى سواده إذا ارتفع النور. ويبرهن ذلك أيضاً مشاهدتنا للنور كل ما تقدم الحامل له قوى ونفذ في الهواء. وكل ما بعد وضعف وهو إناء له في الجسم الذى يحمله. ولسنا نشاهد للظلام إثراء في جسم. فعلى هذه الحقيقة ليس هو إلا عدم الضوء وكما أن عدم الصوت وعدم الرياحة ليسا بأشياء. وإنما ذلك بقاء الهواء خالية منها فنفس قوله וחוּשֶךְ يريد به الهواء فهذا هو العنصر الثالث"[9].

4- الاعتماد على الواقع الحسي في الاستدلال:

        من طرق الجدل مع الخصوم عند المعتزلة استخدام حقائق الواقع الحسي، وثوابت الشاهد الملموس، وبناء دلائل الرأى أو صحته علة مقدمات حسية أو راجعة إلى الحس من قريب أو بعيد.

        يقول ابن حزم: "ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات الحسية، ولا يصح شىء إلا بالرد عليها، فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن، وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط"[10]

        وهذا ما جعل المعتزلة تستخدم المقدمات الحسية في الاستدلال على أنها مقياساً للحكم على مقالات الخصوم وتحديد الخطأ والصواب فيها، فإذا تعارض قول الخصوم مع الشاهد المحسوس في شىء استدلوا بهذا التعارض على بطلانه[11].

        ويقول سعديا: "ولعلمه أن المثل إنما يؤدى إلى تأدية تلويح الحجة والدليل فصح بذلك بغير مثل أن العدل والصحة إنما يثبتان من أقوال مجتمعة. وهذا الاجتماع هو...وذاك مالا تحصل به الحواس فتضطر النفس إلى الشعور به. وذاك ما تشهد به العقول السليمة من الآفات وهو ما يسكن القلب من صحة المقدمات والنتائج وهو ضياء الكلام ونوره بارتفاع الشبه عنه وزوالها...وهو ثبات للقول عند ورود المطاعن عليه والمعارضات فلا ينتقض فيتبين الحق"[12]

        ويرد سعديا بهذا المنطق على الدهريين والقائلين بعدم الخلق من عدم بالدليل الحسي وهو تناهي الزمان والمكان[13]، وكذلك في رده على من أنكروا المعجزات، أمثال "حيوي البلخي"، اعتماداً على أن العقل يرفضها ويرفض النبوة لأنهما يتناقضان مع العقل لأن المعجزة تعتبر تجاوزا وخرقا لقوانين الطبيعة، بأمثلة حية على المعجزات مثل انقلاب الماء لدم والعصا لثعبان.[14]

5-الاعتماد على ما يجوز على الله وما لا يجوز عليه:

عرف المعتزلة باعتمادهم على العقل في قضايا التوحيد والعدل، ومعلوم في أوليات العقول أن هناك أموراً لا تجوز على الله تعالى وهو كل ما يتعارض مع الكمال والحكمة، وهناك أمور تجوز عليه، وهى ما تتوافق مع الكمال والحكمة، ولا بد أن يحكم العقل بفساد كل قول يؤدى إلى أمر لا يجوز على الله تعالى لتعارضه مع كماله وحكمته عز وجل.[15]

وقد واجه سعديا بهذه الطريقة فكرة الأقانيم عند النصارى والتى رأت أن الصفات الثلاث الأساسية للإله، العلم والقدرة والحياة، هى صفات خارجة عن الذات وتعنى تكثيرا في الذات، وزعمت أن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة وهى الوجود والعلم والحياة[16].

واتبع سعديا منهج المعتزلة في مسألة الصفات هذه، حيث رأى أن تلك الصفات الثلاث يجب أن تتوافر في الصانع، وأنها لا توجب أى تغيير في الذات، وإنما جاءت كثيرة لعجز اللغة عن التعبير، وهذا لا يعنى تكثيراً أو زيادة في الذات الإلهية.[17]

 



[1] - القاضى عبد الجبار: المغنى 5/ 115، في رده على النصارى الذين قالوا بالاتحاد.

[2] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 51.

[3] - القاضى عبد الجبار: المحيط بالتكليف. صـ 218 .

[4] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 50، 51.

[5] - محمد عمارة: رسائل العدل والتوحيد. صـ 72.

[6] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 52.

[7] - انظر رد القاضى عبد الجبار على فرقة المقلاصية من الثنوية وهم القائلون بأنه لا بد أن يبقى في المزاج شىء من جوهر النور لا يقدر على تخليصه، فإذا طال مكثه تحول إلى ظلمة ، المغنى 5/ 69.

[8] - سورة المؤمنون: الآية 91.

[9] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 28.

[10] - ابن حزم: الفصل . ج1. صـ 41- 42.

[11] - انظر رد القاضى عبد الجبار على البراهمة في ادعائهم أن بعثة الرسل تناقض ما في العقول، المغنى 5/40.

[12] - مقدمة سعديا للتفسير: صـ7.

[13] - المرجع السابق: صـ 34.

[14] - تفسير سعديا لسفر التكوين: صـ 69، 70.

[15] - انظر رد القاضى عبد الجبار على النصارى باتخاذ الله ولدا، المغنى 5/ 111.

[16] - ابن حزم: الفصل .ج1. صـ 107، 112- 116.

[17] - تفسير سعديا لسفر التكوين صـ 22، 23، القاضى عبد الجبار: شرح الأصول. صـ 131، 196-197.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button