موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية


د.رشا عبد الحميد محمد، كلية الألسن، جامعة عين شمس

تعد الشخصية أهم العناصر التي تشكِّل بنية النص الروائي. فهي أول مكوِّن يجده القارئ في الرواية وآخر ما يودعه، وهي المحور الذي تدور حوله الرواية بكاملها؛ حيث ترتبط بها كل عناصرها تقريبا. فالشخصية هي التي تقوم بإنجاز الأحداث على مدار الحكيّ، كما يقع عليها أحداث أخرى، وهي التي تتحرك في المكان فتؤثّر فيه وتتأثر به، وتحيا في زمان يصبغها بسماته، فنكشف من خلالها –حين تتكلم أو تنجز فعلا- خصائصه الاجتماعية والتاريخية والثقافية.

وبالرغم مما شهدته الشخصية الروائية على مستوى الإبداع والنقد من تطور واهتمام، فإن تعريفها سيبقى دون مستوى قيمتها وأهميتها في العمل الروائي، وبقدر بروزها بوضوح وجلاء فيه، تبقى الشخصية محور جدل وخلاف يستمر حتى الآن.

تطور الشخصية الروائية في النقد الأدبي:

ففي آواخر القرن التاسع عشر لحق ظلم كبير بالشخصية الروائية؛ حيث أهمل النقاد دراستها لفترة طويلة. ويفسر "تودوروف" "Tzvetan Todorov" هذا الإعراض عن دراسة الشخصية الروائية؛ لكونها ذات طبيعة مطاطية جعلتها خاضعة لكثير من المقولات دون أن تستقر على واحدة منها، كما أن هذا الإعراض يتضمن موقفا بمثابة رد فعل على الاهتمام الزائد بالشخصية، وهو اهتمام بالناحية الشكلية والنفسية فحسب[1].

فقد كان الروائي في الرواية التقليدية يلهث وراء الشخصيات ذات الطبائع الخاصة؛ لكي يبلورها في عمله الروائي فتكون صورة مصغرة للعالم الواقعي[2]. وكان أبرز مثال على ذلك روايات بلزاك "Balzac" (1799- 1850)، أحد مؤسسي الاتجاه الواقعي في الأدب الأوروبي، والتي تعد رواياته مرآة تعكس كل طبائع الناس الذين يشكلون المجتمع الذي يكتب له وعنه في الوقت ذاته[3]. فقد كتب حوالي تسعين رواية، أقحم في نصوصها أكثر من ألفي شخصية[4]. وكأنه يريد أن يرصد كل ما يحدث في المجتمع، حيث يعتبر هذا العدد الهائل من الشخصيات بمثابة مسحا شاملا لحركة المجتمع، وذلك من وجهة نظره.

وإلى ذلك الأمر نفسه يشير "فيليب هامون" "Philippe Hamon" أكثر من مرة في مقال له بعنوان (من أجل قانون سيميولوجي للشخصية)، حيث يذكر أن مسألة تحليل الشخصية تُعد مشكلة غامضة، وقُدمت بشكل سئ؛ والسبب في ذلك وفقا لرأي هامون يعود إلى انتشار النقد السيكولوجي[5].

وهذا النقد السيكولوجي الذي يشير إليه كل من تودوروف وهامون، يتجلى في ذلك الخلط، الذي درج القراء والنقاد على إقامته بين الشخصية التخييلية كمكون روائي والشخصية بوصفها ذاتا فردية أو جوهرا سيكولوجيا[6].

وقد ساعد على تكريس هذا الطرح الملتبس للشخصية وشيوعه؛ أن كثيرا من النقاد والمحللين للأدب قد دأبوا على الاستعانة بتصريحات الكُتّاب وآرائهم الشخصية، وذلك لإضاءة هذا المفهوم من الوجهة النفسية، مما أسقطهم في النموذج السيكولوجي العقيم وأبعدهم أكثر فأكثر عن الفهم الوظيفي للشخصية[7].

ووفقا لهذه الرؤية، نجد أن الناقد يتأثر تأثرا كبيرا بالكاتب (المؤلف)، الذي يتعامل مع الشخصية على أنها إنسان من لحم ودم يعيش في الواقع الحياتي، ومن ثم يقوم بوصفها من الداخل وصفا مباشرا، فيروي أقوالها وأحلامها وانفعالاتها في مسيرة الرواية، حتى تصل إلى نهايتها التي تعني نهاية الشخصية، أو نهاية مغامراتها[8].

وهذه المرحلة تختلف عن سابقتها، والتي كان المنظرون فيها لا يرون في الشخصية سوى مجرد اسم للقائم بالحدث[9]؛ وربما كان ذلك وفاءً منهم لرؤية أرسطو، التي ترى أن العمل الفني محاكاة لعمل ما، ومن ثم فإنه من الضروري وجود شخصيات تقوم بذلك العمل، وتكون لكل منها صفات فارقة تنسجم مع طبيعة الأعمال التي تُنسب إليها[10]. وذلك يعني بالطبع أن تكون الشخصية ثانوية بالقياس إلى باقي عناصر العمل وتكون خاضعة تماما لمفهوم الحدث[11].

وقد كان "بروب" ممن نحوا منحى أرسطو في إهمال مكانة الشخصية كمكون قائم بذاته، فقد اعتمد على فعل الشخصية فحسب، كأساس للعمل الأدبي الذي تكمن فيه قيمته. لذلك درس الخرافة انطلاقا من وظائف الشخصيات، حيث يرى إن وظائف الشخصيات هي «العناصر الثابتة والمستمرة في الخرافة، مهما تكن هذه الشخصيات، ومهما تكن طريقة إنجازها لهذه الوظائف[12]». وبناءً على ذلك اختزل بروب الأفعال التي تقوم بها الشخصيات في سبعة وظائف فقط لا غير.

وبعد هذه الثورة التي أحدثها الشكلانيون الروس في نقد الرواية، مع بدايات القرن العشرين، خضعت الشخصية الروائية هي الأخرى إثر ذلك لتحولات عميقة. فهي كعنصر مهم من العناصر التي تشكل بنية الرواية، كان تطورها نتيجة حتمية وطبيعية لتطور أشكال السرد الروائي نفسه. هذا بالإضافة إلى تطور الظروف التي تحيط بالرواية بشكل عام، وتحدد شكل القضايا المطروحة فيها عبر التاريخ.

فانطلاقا من نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يعد ممكنا دراسة الشخصية نفسها على أنها شخص أو فرد، ولكن الأفكار بدأت تتجه إلى دراستها، أو تحليلها، في إطار دلالي. بل أصبحت الشخصية -كما ذكر "ميشيل زيرافا"- عنصرا شكليا وتقنيا للغة الروائية، مثلها في ذلك مثل الوصف، والسرد، والحوار[13].

ومن هنا جاء الاختلاف الجوهري بين نقد الشخصية في رواية القرن التاسع عشر ونقدها في رواية القرن العشرين، أو ما نستطيع أن نطلق عليها الرواية الجديدة في مقابل رواية القرن التاسع عشر التقليدية؛ فمع ظهور النقد الجديد أصبحت قضية الشخصية قضية لسانية، فالشخصيات لا وجود لها خارج الكلمات لأنها ليست سوى «"كائنات من ورق"، لا وجود لها إلا ما يقوله عنها النص (الصوت الخفي أو الجلي للسارد)[14]». فحسب هذا التصور المنسجم مع المرجعية الأساسية للنقد الجديد في فرنسا -وهي اللسانيات- لم تعد تجمع الواقع بالشخصية أية علاقة، وأصبحت أهمية الشخصية في الرواية تضاهي أهمية أي عنصر سردي آخر مكون لها.

دراسة الشخصية عند فيليب هامون:

وقد وقع الاختيار على دراسة "فيليب هامون" من أجل تطبيقها على الشخصيات الروائية في العملين موضوع الدراسة، وذلك للوصول إلى تحليل شامل لها. وسبب اختيار هذه الدراسة –في الواقع- يرجع إلى أنها تعد من أهم الدراسات الحديثة التي أُنجزت حول مقولة الشخصية حتى يومنا هذا؛ وربما ترجع أهميتها إلى أنها قائمة على أساس نظرية واضحة، تصفي حسابها مع التراث السابق في هذا المضمار (أرسطو، لوكاش، فراي...، إلخ)، كما أنها لا تعتمد على النموذج السيكولوجي العقيم[15].

كما ترجع أهمية هذه الدراسة أيضا إلى تأكيدها على ارتباط الشخصية ببناء النص وبالقارئ في الوقت نفسه، حيث يرى هامون «أن الشخصية الروائية هي تركيب يقوم به القارئ أكثر مما يقوم به النص[16]»، وعلى ذلك فإن بناء الشخصية في النص الروائي، وتحليلها، لا يكتمل إلا من خلال مشاركة القارئ، وتلقيه للعمل الأدبي.

وهكذا، تَفيد دراسة "هامون" عن الشخصية في تحليلها من اتجاهين مهمين: الأول: "دي سوسير" وخاصة بمفهومه عن العلامة، والثاني: مدرسة التلقي الألمانية، وخاصة مفهوم أفق التوقعات لدى "ياوس" الذي اهتم بدراسة التاريخ وربطه بالأدب، ومفهوم التجسيد لدى "إيزر" الذي اهتم بالنص الأدبي من داخله. حيث إن السرد وفقا لهذه النظرية، يقدِّم للقارئ العلامات الضرورية للتعرف على الشخصية، معتمدة على درجة مشاركته في ثقافة ما، وقدرته على استخلاص صفات الشخصية وسماتها من خلال هذه العلامات.

وقد عرَّف هامون الشخصية الروائية –وفقا لهذه الرؤية- بأنها: (علامة) "Sign" تقوم ببناء الموضوع. وهو في هذه النقطة يتفق مع "جريماس"، الذي يرى أن الشخصية علامة ضمن نسق النص، غير أن هامون يقسم الشخصية إلى دال ومدلول، باعتبارها «وحدة دلالية قابلة للتحليل والوصف، وليس كمعطى قبلي وثابت[17]»، فتكون (الشخصية) بمثابة (دال) عندما تتخذ عدة أسماء أو صفات تلخّص هويتها. أما (الشخصية) (كمدلول) فهي مجموع ما يُقال عنها بواسطة جمل متفرقة في النصّ أو من خلال تصريحاتها وأقوالها وسلوكها، وهكذا فإن صورتها لا تكتمل إلا عندما يكون النص الحكائي قد بلغ نهايته ولم يعد هناك شيء يُقال[18]؛ أي أن الشخصية تصبح كمورفيم فارغ يمتلئ تدريجيا كلما تقدمت عملية القراءة نحو النهاية.

من التعريف السابق، نفهم أن هامون استقى مفهومه للشخصية من اللسانيات، باعتبارها علامة لغوية تتكون من (دال/ مدلول)، لذلك نجد أن الشخصية تشبه -في مفهومه- العلامة اللغوية عند "دي سوسير"، من ناحية:

-         إن مفهوم الشخصية مستقل عن المرجع لا تُراعى فيه إلا المعطيات النصية المتلفظ بها عنها داخل النص.

-         إن الشخصية تؤدي وظيفة إرسال أو تبليغ شأنها في ذلك شأن اللغة التي قَصَر اللسانيون أداءها على التواصل فقط.

غير أن هامون قد شدَّد على القول بأن الشخصية:

-       ليست مقولة أدبية محضة، إنما هي أمر مرتبط أساسا بالوظيفة النحوية التي تقوم بها الشخصية داخل النص، أما وظيفتها الأدبية فتأتي حين يحتكم الناقد إلى المقاييس الثقافية والجمالية.

-       كما أن الشخصية ليست مؤنسنة بشكل خالص، فقد تكون بعض المفاهيم المعنوية كالفكر مثلا.

-       إن الشخصية يُعاد بناؤها من قِبَل القارئ كما يقوم النص بدوره ببنائها[19].

وما يهمنا الوصول إليه من رأي هامون:

-       إنه أعطى للشخصية وظيفتين: الأولى نحوية مستقاه من النص (دي سوسير، إيزر)، والثانية أدبية مستوحاة من المنظومة الثقافية والجمالية التي ينتمي إليها النص (ياوس). فالأولى تتعلق بالشخصية كعلامة (دال/مدلول)، أما فيما يخص الوظيفة الثانية، فيرجع تقييمها إلى معايير المجتمع الثقافية والإيديولوجية التي يُنتَج فيها النص الأدبي.

-       إن الشخصية عنده هي نتاج قراءة أيضا.

وهذا السبب الأخير، كما ذكرنا منذ البداية، هو ما دعانا إلى اختيار تحليل الشخصية وفقا لنظرية هامون؛ حيث ترتبط الشخصية عنده بالقارئ. وليس القارئ فحسب ما ترتبط به الشخصية الروائية، بل ربطها هامون كذلك بالسياق. فالشخصية عنده «وليدة مساهمة الأثر السياقي من جهة، ونشاط استذكاري يقوم به القارئ من جهة أخرى[20]»؛ فالقارئ يتلقى، وفقا لذلك، الشخصية كعلامة يتوقف تأويلها على مختلف السياقات المحيطة بها من جهة، وعلى دوره هو ذاته من جهة أخرى، حيث يعمل القارئ على استحضار المدلول الغائب للدال الحاضر.

والخلاصة: إن المنظرين أجمعوا على أن دراسة فيليب هامون دراسة متميزة بالفعل، حيث اختلف بتحليله للشخصية باعتبارها علامة قابلة للتحليل والوصف، عن التحليلات السابقة للشخصية، والتي كانت تتخذ وجهات تاريخية ونفسية واجتماعية في التحليل، مما تسبب في دخولها إلى متاهات الالتباس والغموض. فقد جعل هامون من الشخصية مرادفا للعلامة اللسانية، لها وجه دال ووجه مدلول، وتندرج في شبكة من العلاقات السياقية[21].

فالشخصية عنده ليست هوية محدَّدة بشكل قبلي وثابت، بل تتكون بعملية بناء تتم من خلال القراءات المتنوعة والمتعددة للعمل الروائي. فالظهور الأول للشخصية في السرد يشكل شيئا شبيها بالبياض الدلالي، حيث تدخل الشخصية إلى عالم الرواية بببعض النعوت والأوصاف، ثم تبدأ في عملية البناء منذ أن تبدأ الشخصية في التحرك كفاعل للأحداث فيها (الوظائف)، وعلى مدار مسيرة السرد الحكائي. غير أن ذلك ليس وحده ما يشكل الشخصية، فلكي يكتمل بناؤها، تدخل في تعارضات وعلاقات تقيمها مع الشخصيات الأخرى داخل الملفوظ الروائي[22].

لذلك تستلزم دراسة الشخصية الروائية وفقا لنظرية هامون، الوقوف عند ثلاثة محاور مهمة، يمثل كل واحد منها دراسة لجانب من جوانب الشخصية الروائية:

          ‌أ-          دال الشخصية.

       ‌ب-       النموذج العاملي.

        ‌ج-        مدلول الشخصية.

أ‌-       دال الشخصية:

تُقدَّم الشخصية من خلال دال لا متواصل، أي مجموعة متناثرة من الإشارات التي يمكن تسميتها "اسم"[23].

وقد يحدث أن يعتقد البعض بأن أسماء الشخصيات لا أهمية لها، ولكن الأمر خلاف ذلك، فالحقيقة البنيوية بيَّنت أن اسم الشخصية يسهم وبقدر ما في تحديد مدلولها بصفة خاصة، وفي عملية بنائها بصفة عامة، وكما يقول بارت: «إن اسم العلم هو أمير الدوال[24]». وهو تمييز وتفضيل، فمعنى أن تُمنح شخصية اسما وتُحرم أخرى من هذا الاسم، هو تفضيل للأولى على الثانية[25].

وقد قادت هذه الرؤية هامون إلى المراهنة على اسم الشخصية، ووظائف هذا الاسم التي تستخدم نقطة مرجعية تسهم في عملية التأويل، كما تشير في نفس الوقت إلى أدوار مبرمجة (وظائف) بشكل سابق[26]، فالسارد وهو يمنح الشخصية اسما فإنه يقوم وفقا لمعنى هذا الاسم بتحديد قدرها المستقبلي[27]. وإذا كان الاسم محروما من أي سياق (أي بدون مدلول)، فإن قيمته تكمن في غياب مدلول هذا الاسم عند القارئ[28]. بل إن الحالات التي يكون فيها الاسم غائبا، لا يكون ذلك إلا جزءً من استراتيجية سردية قائمة على اللغز، حيث إن معرفة الاسم ترافق حل هذا اللغز، واستنفاد كل الإمكانات لاستمرار السرد، وإعلان وصوله إلى النهاية[29].

ج- مدلول الشخصية:

إن المبدأ الأساسي للسرد، ونقصد به التحول من حالة إلى حالة كما ذكرنا، كالتحول من جهل النفس مثلا إلى معرفة النفس، أو من الخيانة إلى الولاء، أو من الخنوع إلى التمرد... إلخ، لا يتم فجأة لتتحول الشخصية من حالة اللاوعي المطلق إلى حالة وعي كامل، بل يتم ذلك من خلال عملية تأويل المادة القصصية الماضية، والتي تشكِّلها الأفعال الصادرة عن الشخصية في الماضي، وربطها بأفعال منجَزَة في الحاضر[30].

فهذا التحول الذي يحدث للشخصية، يجب أن تسبقه -وفقا لذلك- مؤشرات، تتمثل في الصفات والوظائف التي تكتسبها الشخصية منذ اللحظة الأولى لظهورها في الرواية، والتي يتم تأويلها على مدار السرد، وحتى الوصول إلى نقطة النهاية. وذلك يعني أنه لا يمكن التعرف على الشخصية بشكل كامل من جميع نواحيها الشكلية والنفسية منذ اللحظة الأولى للسرد، أو عند إلصاق هذه الصفة أوتلك إليها؛ وذلك لأن سمات الشخصية ووظائفها متحركة، وتتطور بتطور حركة السرد، وبالتالي يتم بناء الشخصية وتطورها هي الأخرى، وفقا لبناء هذه السمات وتطورها عبر زمن القراءة.

لذلك نجد أن مدلول الشخصية يُبنى ويتضح في النص الروائي من خلال ثلاث طرق:

1-    التكرار: ويعني ورود صفة ما أو وظيفة عدة مرات.

2-    التراكم: ويعني ورود صفات كثيرة لشخصية ما، تقوم بوظائف مختلفة في النص الروائي.

3-    التحول: ويعني قدرة الشخصية على التغيُّر بفعل التأثيرات التي تمارسها الأحداث على بنائها[31].

لذلك نجد أن غاية الروائي عندما يمنح شخصياته صفات معينة، تتابع بشكل متكرر أو تراكمي، هوأن يدفع بالسرد في الاتجاه الذي يجعل الشخصية قادرة بالفعل على التغيُّر والتحول.

أساليب تقديم صفات الشخصية ووظيفتها:

أشار هامون في نظريته إلى تنوع الأساليب التي تُقدَّم من خلالها صفات الشخصية، فهي إما أن تكون معطاه بشكل صريح داخل النص الروائي، أو أن تُعطى ضمنا، من خلال وقائع في السرد تحيل على هذه الصفة أو تلك، وذلك بخلق موقف ما، وإدماج الشخصية داخله في لقطات قصيرة تصفها داخل هذا الموقف[32].

وأمام تعدد الأساليب التي تُقدَّم بها صفات الشخصية، كان لابد من إيجاد وسائل تسهل على القارئ التعرف عليها، وتمييزها بيُسر. وفي هذا الصدد اهتم هامون بتعيين مقياسين مهمين لتحديد سمات الشخصية (صفاتها ووظائفها)، وهما مقياس كمي، ومقياس كيفي (نوعي):

1-    مقياس كمي: يهتم هذا المقياس بكمية المعلومات المتواترة المعطاة صراحة حول الشخصية، وتكون غالبا سماتها المظهرية، ويعتمد هذا المقياس على الإحصاء.

2-    مقياس نوعي: أي مصدر تلك المعلومات حول الشخصية، هل تقدمها الشخصية عن نفسها مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن طريق التعليقات التي تسوقها الشخصيات الأخرى أو المؤلف. كذلك صفات الشخصية ووظائفها التي يمكن اكتشافها ضمنا في النص، من خلال سلوك الشخصية وأفعالها[33]، حيث يستطيع القارئ من خلال ذلك استنباط السمات الباطنة للشخصية، كما ذكرنا.

وهذان المقياسان اللذان عينهما هامون، ينبنيان على مفهومين أساسيين، يتعلقان بالراوي ووجهة نظره في تقديم الشخصية، تحدث عنهما من قبل "جان بويون" "J. Pouillon" وطورهما "جيرار جنيت" "Gerard Genette"، ويتمثلان فيما يعرفه جينيت بـ: أسلوب الحكي ومنظوره (المسافة، وزاوية الرؤية).

لذلك قبل الحديث عن كيفية تقديم الشخصيات وصفاتها، عند كل من الأديب العربي إميل حبيبي، والإسرائيلي دافيد جروسمان، في الروايتين موضوع الدراسة، رأيت أن أقدم عرضا سريعا لهذين المفهومين، محاولةً لفهم أعمق لعلاقة السارد بالشخصية، ومن ثم علاقتهما معا بالقارئ، مع مراعاة إن المقصود بالسارد/الراوي، هو شخصية من شخصيات العمل الروائي، وليس المقصود به المؤلف على الإطلاق.

فقد ميَّز جنيت تحت مصطلح [الصيغة السردية]، بين شكلين أساسيين، وظيفتهما تنظيم الخبر السردي، وهما: [المسافة والمنظور]

فالمسافة : بشكل عام هي التي تزود القارئ بما قلَّ أو جلّ من المباشرة.

أما المنظور : فهو الذي يزود القارئ بما قل أو جل من التفاصيل، وذلك حسب القدرات المعرفية عند هذا الطرف المشارك في القصة أو ذاك ( شخصية أو مجموعة شخصيات ) والتي ستتبنى سرد الحكاية[34].

وإذا نظرنا من ناحية تقديم الشخصية، نجد أن المنظور يعني من يُقدِّم الشخصية للقارئ؟ هل هي التي تُقدِّم نفسها مباشرة بضمير المتكلم (التقديم الذاتي)، أم من خلال التعليقات التي تسوقها الشخصيات الأخرى في الرواية أو ما يقوله السارد عنها (التقديم الغيري).

أما المسافة، فتعني كيف يتم تقديم الشخصية؟ هل تُقدَّم صفاتها بصورة مباشرة (صريحة)، أم بصورة غير مباشرة (صفات يمكن استنباطها من خلال أفعال الشخصية، وسلوكها تجاه مواقف بعينها في السرد).

وفيما يتعلق بكيفية تقديم شخصية ما في الرواية، تجدر الإشارة إلى أن تقديم الشخصية إذا جاء على لسان إحدى الشخصيات الأخرى بشكل مباشر، فإن ذلك يعني أن المسافة التي تفصل بين الشخصية ومن يقدمها صغيرة، بالدرجة التي تمنح تلك الشخصية المقدِّمة القدرة على وصفها بصفات مباشرة وصريحة، بل والقدرة كذلك على الولوج إلى أعماقها، وتحليلها من الداخل. أما إذا كانت تُقدَّم بشكل غير مباشر، فهذا يعني أن المسافة تبتعد بين الشخصية ومن يقدمها، ليصبح مجرد وصفا لأفعالها، دون التدخل بإصدار حكم مباشر عليها، ومنحها صفات بعينها.

 



[1] تزفيتان تودوروف، اللغة والأدب، تر: سعيد الغانمي، ضمن كتاب: اللغة والخطاب الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1991، ص37.

[2] عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد (240)، 1998، ص73.

[3] المرجع السابق، ص73.

[4] المرجع السابق، ص104.

[5] فيليب هامون، سيميولوجية الشخصيات الروائية، دار الكلام، الرباط، 1991، ص15- 16.

Philippe Hamon, “Pour un statut sémiologique du personage”, in: Littérature, no. 6 (1972).

[6] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990، ص210.

[7] المرجع السابق، ص210- 211.

[8] Seymour Chatman, Story and Discourse, (London: Cornell University Press, 1978), p. 11.

[9] ديفيد ديتش، مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، تر: محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، 1976، ص49.

[10] المرجع السابق، ص49.

[11] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص208.

[12] فلاديمير بروب، مورفولوجيا الخرافة، تر: إبراهيم الخطيب، ص35.

[13] عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص76- 77.

[14] سعيد بنكراد، سيميولوجية الشخصيات السردية "رواية الشراع والعاصفة لحنا مينة نموذجا"، دار نشر مجدلاوي، الأردن، ط1، 2003، ص104.

[15] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص216.

[16] محمد عزام، شعرية الخطاب السردي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005، ص8.

[17] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص213.

[18] محمد عزام، الخطاب السردي، ص8.

[19] فيليب هامون، سيميولوجية الشخصيات الروائية، ص24- 26.

[20] عبد الوهاب الرقيق، في السرد، دار الكتاب العربي، القاهرة، 2004، ص138.

[21] المرجع السابق، ص138.

[22] فيليب هامون، سيميولوجية الشخصيات الروائية، ص128.

[23] المرجع السابق، ص49.

[24] سعيد بنكراد، سيميولوجية الشخصيات السردية، ص139، نقلا عن:

Roland Barthes, Sèmiotique narrative et textuelle

[25] المرجع السابق، ص139.

[26] فيليب هامون، سيميولوجية الشخصيات الروائية، ص49.

[27] سعيد بنكراد، سيميولوجية الشخصيات السردية، ص139.

[28] المرجع السابق، ص139.

[29] المرجع السابق، ص171.

[30] سعيد بنكراد، سيميولوجية الشخصيات السردية، ص153.

[31] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص245.

[32] فيليب هامون، سيميولوجية الشخصيات الروائية، ص33- 40.

[33] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص224.

[34] جيرار جنيت – خطاب الحكاية – ص 177، 178.

المصدر: بنــاء الشخصيــة في روايتي «ابتسامة الجدي» لدافيد جروسمان و«المتشائل» لإميل حبيبي، دراسة في ضوء نظرية التلقي، رسالة دكتوراه غير منشورة، إعداد: رشا عبد الحميد محمد، كلية الألسن، جامعة عين شمس، 2011

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button