موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية

د.رشا عبد الحميد.كلية الألسن. جامعة عين شمس

يلعب المكان دورا مركزيا داخل منظومة الحكي، لا لأنه أحد عناصرها الفنية فحسب؛ بل لأنه يتحول في بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوي كل العناصر الروائية داخله، فهو يمثِّل أمكنة الرواية، كما يشكِّل تلك الحوادث التي تقع في هذه الأمكنة، بالإضافة إلى وجهات نظر الشخصيات فيها[1].

فالمكان لا يعيش منعزلا عن باقي عناصر السرد، وإنما يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى، كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية[2]. بل إن المكان في الرواية، بإمكانه أن يصبح محددا أساسيا للمادة الحكائية كلها[3].

وهذا يدل على مدى أهمية ذلك العنصر في تشكيل الرواية بشكل عام، ولدى المتلقي بشكل خاص. فالذي يبقى من آثار قرائتنا لأي عمل أدبي يتمثل –غالبا- في أمرين مركزيين: المكان الروائي، والشخصية التي تتحرك في هذا المكان[4].

فقراءة الرواية كما يقول ميشال بوتور: «هي رحلة في عالم مختلف عن العالم الذي يعيش فيه القارئ، فمنذ اللحظة الأولى التي يفتح فيها القارئ الكتاب ينتقل إلى عالم خيالي من صنع كلمات الروائي، ويقع هذا العالم في مناطق مغايرة للواقع المكاني المباشر الذي يتواجد فيه القارئ[5]».

ولماهية النص الروائي الذي يتسم بتنوع الأحداث وتطورها، فإن هذا الأمر يقتضي تعدد الأماكن وتنوع تجلياتها، وفقا للتيمات التي تتوالى في الحكاية. لذلك جزم ميشال بوتور بعدم وجود نص روائي تجري حوادثه في مكان واحد، وإذا ما تجلى للمتلقي أنها تجري في مكان واحد، فإن هذا المكان يخلق في ذهن المتلقي أفكارا تنقله إلى أماكن أخرى[6]. فهي أماكن لم تُرو داخل النص الروائي، وإنما تواردت إلى ذهن المتلقي أثناء قرائته.

وعلى الرغم من تلك العناية الشديدة التي حظى بها المكان في الأعمال الإبداعية منذ القدم، حيث برع المبدعون العرب في رسم المكان الأدبي منذ عهد المعلقات في زمن الجاهلية، مرورا بالمقامات (الهمذاني، والحريري...)، وحُكاة الحكايات (ألف ليلة وليلة، وغيرها...)، فقد أجمع معظم النقاد على أنه لم يحظ بنفس القدر من الأهمية في الدراسات والتحليلات العربية للرواية، «حيث ظل التعامل معه جاريا على شئ من الاستحياء، على عكس التعامل مع الشخصية مثلا، والمكونات السردية الأخرى[7]».

فإذا تأملنا تحليلات السرد الأدبي، فإننا نلاحظ أنها اهتمت بشكل خاص بمنطق الأحداث، ووظائف الشخصيات، وزمن الخطاب، «أما الأبحاث المتعلقة بدراسة الفضاء الحكائي فتعتبر حديثة العهد، بل إنها لم تتطور بعد لتؤلف نظرية كاملة عنها[8]».

فهي أبحاث لا تزال في بداية الطريق، وهذا ما ذكره "هنري متيران" "H. Mitterand"، حين قال إنه: «لا وجود لنظرية مشكَّلة من فضائية حكائية، ولكن هناك فقط مسارا للبحث مرسوم بدقة، كما توجد مسارات أخرى على هيئة نقط متقطعة[9]».

وربما يرجع ذلك إلى سببين: يتمثل الأول في أن كل ما يُكتب عن هذا المكوّن الحكائي يعتمد على الدراسات النقدية الأجنبية –شأنه في ذلك شأن المكونات الحكائية الأخرى- غير أنها بالنسبة للمكان قليلة، وقسم منها غير مترجم، فلم يلق لذلك حظا وافرا من الاهتمام بالقياس إلى المكونات الأخرى[10].

أما السبب الثاني فيرجع إلى طبيعة المكان الروائي نفسه، حيث يتصف بخصائص (جغرافية، واجتماعية، وتاريخية، وذاتية...)، وتختلف هذه الخصائص من مكان إلى آخر. كما أن ضوابط المكان في النص الروائي ليست واحدة، لكنها تختلف من رواية إلى أخرى، ومن روائي إلى آخر[11].

ومن وجهة نظري، فإن هذه الضوابط التي يخضع لها المكان الروائي، ترتبط من ناحية بشخصية الروائي وثقافته، وهمومه التي يسعى لمعالجتها في أعماله، والتي تختلف بالطبع من روائي إلى آخر، كما ترتبط من ناحية أخرى بالتغييرات الاجتماعية التي يشهدها المكان ذاته، والتي قد تكون هي الموضوع الرئيسي الذي يدفع الروائي لمعالجته في الرواية، والذي بدوره يختلف من رواية إلى أخرى، وفقا للأماكن التي تتجلى فيها أحداثها.

كل ذلك بالطبع يفسر لنا صعوبة تحليل البنية المكانية في النص الروائي، وما ينتج عن دراستها من متاعب وتساؤلات، تبقى معلقة، أو ربما بدون إجابات واضحة، يجمع عليها الباحثون.

لذلك تعددت مسارات البحث في المكان الروائي، واتخذت أشكالا عدة، غير أن ما قدمه "جاستون باشلار" "Gaston Bachelard" في كتابه La Poétique de l'Espace"" أو (شعرية الفضاء)، والذي قام بترجمته "غالب هلسا" تحت عنوان (جماليات المكان)، يعد أكثر المسارات أهمية، حيث درس باشلار فيه القيم الرمزية المرتبطة بالمناظر التي تتاح رؤيتها للسارد أو للشخصيات، سواء في أماكن إقامتهم كالبيت والغرف المغلقة، أو في الأماكن المنفتحة، الخفية أو الظاهرة، المركزية أو الهامشية...، وغيرها من التعارضات التي تعمل كمسار يتضح فيه تخيُّل الكاتب والقارئ معا[12].

يليه المنظِّر السوفيتي "يوري لوتمان" "Youri Lotman" في كتابه (بناء النص الفني)، والذي اهتم اهتماما خاصا بعلاقة الإنسان بالمكان الذي يعيش فيه، وتصوره له، من خلال صفات خاصة تبلور هذه العلاقة. حيث أشار يوري لوتمان إلى ملحوظة مهمة، تتمثل في «أن الإنسان يُخضع العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان، ويلجأ في ذلك إلى اللغة[13]».

فالإنسان يُضفي صفات مكانية على الأفكار المجردة، من أجل تجسيدها وفهمها. وينطبق هذا التجسيد المكاني على العديد من المنظومات (الاجتماعية، والدينية، والأخلاقية، والسياسية...). كما أن هذا الالتصاق بين المعنى والمكان، يرتبط بشكلٍ أو بآخر، بثقافة مجتمع ما وحضارته، ومثال ذلك:

عالي # واطئ = قيِّم # رخيص (قيمة أخلاقية)

قريب # بعيد = الأهل # الغرباء (قيمة اجتماعية)

يمين # يسار = حسن # سئ (قيمة دينية)

وكما نرى، فإن من يتبع في سلوكه الدين الصحيح، يُنسَب إلى "أهل اليمين"، ومن يكون سلوكه ضد الدين الصحيح يُنسَب إلى "أهل اليسار". كما أن رفعة الأخلاق تجسدها صفات مكانية، فنقول هذا شخص أخلاقه "عالية" لسموها ورفعتها، أو "واطئة" لتدنيها وحطتها. والذهن "مفتوح" و"مغلق" وهذا إشارة للذكي والغبي، والذي ينتمي إلى الأهل ننعته بـ"القريب"، والغريب نطلق عليه شخص "بعيد"... وهكذا[14].

إذًا، نستطيع أن نقول هنا إن المكان ليس عنصرا زائدا في الرواية، ولا هو مجرد خلفية لأحداثها، أو قطعة ديكور فحسب، وإنما هو عنصر أساسي، ومكوِّن جوهري في الرواية، وبفضل بنيته الخاصة، والعلاقات المترتبة عنه –كالعلاقات بين الشخصيات بعضها ببعض، أو العلاقات بينه وبين الشخصيات- يمسي المكان عنصرا متحكما في الوظيفة الحكائية والرمزية للسرد.

إشكالية المصطلح:

إن أول ما يواجهنا في مسألة دراسة المكان الروائي، هو تعرضنا لعدد من المصطلحات المرتبطة بهذا العنصر المهم في تشكيل الإبداع الأدبي، الأمر الذي من شأنه أن يكون سببا في حدوث التباس لدى الباحث. لذلك سأحاول في السطور التالية، تقديم عرض موجز لأبرز المصطلحات التي تُستخدم للإشارة إلى المكان، وهي: (المكان/ الفضاء/ الحيْز)، وذلك بهدف توضيح دلالة كل مفهوم منها، وتمييز استخدامه.

أولا: من المكان إلى الفضاء:

إلى عهد قريب كان المكان يعادل في مفهومه الشائع في الدراسات النقدية، مصطلح الفضاء. وهذا الخلط التفت إليه مؤخرا بعض النقاد المحدثون، مثل الناقد "حسن نجمي" مثلا في كتابه (شعرية الفضاء)، وذلك عندما أشار إلى أن مفهوم الفضاء في النقد العربي قد انهكته حالة من الالتباس، بدأت مع ترجمة غالب هلسا لمصطلح الفضاء بالمكان، وذلك عندما ترجم كتاب "جاستون باشلار" (شعرية الفضاء) La Poétique de l'Espace"" بـ (جماليات المكان)[15].

وقد ميَّز بعض النقاد بين المصطلحين، حين ذكروا أن المقصود بالمكان هو المكان الروائي المفرد ليس غير، أما الفضاء الروائي فيُقصد به مجموعة الأمكنة في الرواية، «فتعيين سلسلة من الأماكن، تُسنَد إليها مجموعة من المواصفات، يحولها مباشرة إلى فضاء[16]»، تلك الأماكن هي التي تقوم عليها الحركة الروائية المتمثلة في مسيرة سرد الأحداث.

وبناءً على ذلك يكون الفضاء أشمل وأوسع من المكان، والمكان بالنسبة للفضاء عنصرا مكوّنا له، «فالمقهى أو المنزل، أو الشارع أو الساحة، كل واحد منها يعتبر مكانا محددا، ولكن إذا كانت الرواية تشمل هذه الأشياء كلها، فإنها جميعا تشكل فضاء الرواية[17]».

وثمة فرق آخر يميز بين المكان والفضاء، يتمثل في أن الأخير يلزم لإدراكه خط زمني يتقدم مع سيرورة الحكي، بخلاف المكان المحدد، فإدراكه غير مشروط بمسيرة زمن القصة. فوصف المكان يستلزم وقفة زمنية، على عكس الفضاء الذي يفترض دائما تصور الحركة داخله، أي يفترض استمرارية زمنية[18].

ومن ذلك الخلط بين المكان والفضاء، يمكننا القول أن مصطلح الفضاء بمفهومه الشائع الآن، لم ينتشر في الكتابات النقدية العربية إلا مؤخرا؛ حيث إن النقاد العرب لم ينتبهوا إلى هذا المفهوم الذي كان شائعا، في حقيقة الأمر، بين النقاد الغربيين إلى حد بعيد[19].

أما في الآونة الأخيرة فقد أصبح المصطلح يحتل مكانة واضحة، وكما أصبح بارزا بشكل لافت في الدراسات النقدية الحديثة.

وإن كان الرجوع إلى أمهات الكتب، يخبرنا باهتمام القدماء بالتمييز بين مصطلحيّ الفضاء والمكان، فنجد "ابن منظور" (ت. 71هـ)، يذكر أن كلمة فضاء تعني: المكان الواسع في الأرض، والفعل فضا يفضو فضوا فهو فاضٍ. وقد فضا المكان وأفضا إذا اتسع، كما أنه يجئ بمعنى العراء الذي لا شئ فيه، والفضاء الخالي الواسع من الأرض[20].

وابن منظور بهذا التعريف قد أكد على أن المعنى المقصود من الفضاء هو الاتساع والخلو. ولعل هذا التعريف هو أقدم ما كُتب عن كلمة فضاء في المعجمات العربية.

أما النقاد الكلاسيكيون فقد اكتفوا -في البداية- باستخدام كلمة (المكان/ Lieu/ Place)، وذلك في اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وذلك للدلالة على كل أنواع المكان، حيث لم يكن معنى الفضاء بمفهومه الحديث قد نشأ بعد. ثم ضاق الفرنسيون بمحدودية كلمة "lieu" فبدأوا باستخدام كلمة "Espace" المقابلة لكلمة "فضاء" العربية، و"Space" الإنجليزية. ثم لم يرض نقاد الإنجليزية عن اتساع كلمة "Place" التي تعني "مكان" وتحولها إلى "Space" "فضاء"، فأضافوا لاستخداماتهم كلمة "Location" "موقع"، للتعبير عن المكان المحدد لوقوع الحدث[21].

كما قام المنظرون الألمان كذلك بالتمييز بين مكانين متعارضين هما "Raum" وتقابل في العربية كلمة "الفضاء"، و"Lokal" وتقابل "الموقع أو المكان المحدد"[22].

وهكذا نجد أن النقاد المحدثين يستخدمون ما يقابل كلمة (الموقع/ المكان/ الفضاء) للتعبير عن مستويين مختلفين للبعد المكاني:

أحدهما محدد ويتركز في مكان وقوع الحدث، وتضبطه الإشارات الاختيارية كالمقاسات والأعداد، والآخر أكثر اتساعا، ويعبر عن الفراغ المتسع، الذي تؤسسه الأحداث ومشاعر الشخصيات في الرواية[23]. أي المكان والفضاء بالمعنى الذي نفهمه.

ثانيا: مصطلح الحيْز:

وتجدر الإشارة هنا إلى أن من النقاد من آثر استخدام مصطلح الحيز الروائي عن مصطلح الفضاء الروائي[24]، حيث إن مصطلح الفضاء، وفقا لهذا المنظور، قاصر بالقياس إلى الحيز، لأن الفضاء من الضرورة أن يكون معناه جاريا في الخواء والفراغ، وهذا ما ذكره من قبل ابن منظور في تعريفه للفضاء، بينما الحيز يلزم لاستعماله إدراك النتوء، والوزن، والثقل، والحجم والشكل[25].

ومن السابقين من لم يغفل كذلك مصطلح الحيز، حيث أشار التَهَانَوي في (كشاف اصطلاحات الفنون) إلى أن الفضاء يشمل كل من الزمان، والمكان، والحيز، حيث أشار إلى أن الحيز يقترب من مصطلح الفضاء حينما يتداخل مع الزمان والمكان[26].

ومن هذه الآراء السابقة نستطيع أن نؤكد على أن معظمها قد أجمع على أن هناك اختلافا أكيدا بين مصطلحات (المكان/ الفضاء/ الحيز)، غير أن أغلب النقاد لم يستقروا بعد على عرف نقدي واحد يؤكد ذلك، على الرغم من تعريف كل هذه المصطلحات تعريفا نقديا يحاول التفرقة بين استخداماتها. وربما يرجع السبب في ذلك إلى التداخل الواضح بين الفضاء والمكان والحيز، والاعتراف بصعوبة إقامة حد فاصل بينهما. بالإضافة إلى حداثة التنظير لهذا العنصر الحكائي، كعنصر قائم بذاته من ناحية، ومكوِّن لبنية النص من ناحية أخرى.

أما في هذه الدراسة، فقد فضلت استخدام مصطلح المكان عند الحديث عن المكان المحدد، واستخدام مصطلح الفضاء الروائي عند الحديث عن مجموع الأمكنة في الرواية. وقد آثرت التمييز بين المصطلحين في الدراسة، لما لمصطلح الفضاء من أبعاد ترتبط بصلاته كعنصر حيوي مع باقي المكونات الحكائية في النص، وخاصة علاقته بالشخصية، وهو ما ننشده في هذه الدراسة.

فالمكان لا يلزم لدراسته إلا الوصف الخارجي فحسب، ولا شأن له بتأثيره على الشخصيات، أو تأثيرها في بنائه، وهذا على عكس الفضاء الذي تعكس طريقة بناء الأماكن التي يحتويها، مسار بناء الشخصيات، وبلورة ملامحها. كما يلعب الزمن جانب مهم في بنائه من خلال التغييرات التي تطرأ عليه، وتؤثر بدورها هي الأخرى على البناء النفسي للشخصية.

وأول ما تقتضيه هذه الدراسة الشعرية للفضاء، هو التمييز بين الفضاءات المختلفة في العمل الروائي، تمهيدا لتحديد البنية المستهدفة من الدراسة، وتحليلها. وهذه الفضاءات هي:

1-     الفضاء النصي.

2-     الفضاء الحكائي (الدلالي).

3-     الفضاء الواقعي (الجغرافي).

أنواع الفضاء الروائي:

يحتوي العمل الروائي على ثلاثة أنواع من الفضاء، وتتمثل في:

          ‌أ-          فضاء النص:

هو فضاء مكاني، غير أنه متعلق فقط بالمكان الذي تشغله الكتابة الروائية أو الحكائية –باعتبارها أحرفا طباعية- على مساحة الورق ضمن الأبعاد الثلاثة للكتاب. وهذه الأبعاد الثلاثة التي يتضمنها الكتاب، تتمثل في: طول السطر، وعلو الصفحة، أما البعد الثالث فهو سُمْك الكتاب[27]. كما يضاف إلى ذلك، تصميم الغلاف، وتغييرات الكتابة وأشكالها، وتشكيل العناوين، وغيرها[28].

يعتبر ميشال بوتور هو أكثر النقاد اهتماما بهذا الشكل من الفضاءات، فهو لم يحصر اهتمامه في الرواية وحدها. وبالرغم من أن هذا الفضاء فضاء مكاني، فهو محدود ولا علاقة له بالمكان الذي تتحرك فيه الشخصيات الروائية، بل هو المكان الذي تتحرك فيه –على الأصح- عين القارئ[29].

لذلك تكمن أهمية فضاء النص في نقطة معينة، وهو إنه يحدد طبيعة تعامل القارئ مع النص الروائي، وذلك من خلال قدرته على توجيه القارئ إلى فهم معين للعمل[30].

ومع ما لفضاء النص من تأثير على القارئ، فإننا لن نتوقف عنده كثيرا، لأنه ليس له ارتباط مباشر بمضمون الحكي كما ذكرنا، حيث نصب اهتمامنا في هذه الدراسة –في الأساس- على الفضاء الذي يحتويه الحكي، كما سنرى فيما يلي.

        ‌ب-        الفضاء الواقعي (الجغرافي):

هو مقابل لمفهوم المكان الذي أطلق عليه البعض مصطلح الحيز الجغرافي، بكل ما يحمله المكان من مظاهر جغرافية تتمثل في (الجبال/ السهول/ الهضاب/ الوديان....)، بالإضافة إلى القرى والمدن، والأحياء والشوارع... إلخ[31].

ويمكننا القول أن هذا النوع من الفضاءات الروائية يمثل المكان ذو المرجعية الواقعية، والذي يتحرك فيه الأبطال، أو يُفترض أنهم يتحركون فيه. وسيحظى هذا النوع من الفضاءات بجانب من الاهتمام في هذه الدراسة، لما للمكان الواقعي من أهمية فيها.

         ‌ج-         الفضاء الحكائي (الدلالي):

هو الفضاء الذي يهمنا دراسته في هذا المبحث، ويشير إلى الصورة التي تخلقها لغة الحكي وما ينشأ عنها من بُعد يرتبط بالدلالة المجازية بشكل عام[32].

إن العمل الأدبي ليس واقعا محضا، وليس خيالا خالصا[33]. وإذا كانت نقطة انطلاق الروائي في عمله الإبداعي هو عالم الواقع، فإن نقطة الوصول ينبغي أن لا تكون هي العودة إلى عالم الواقع مرة أخرى، حيث ينبغي خلق عالم مستقل له خصائصه الفنية التي تميزه عن غيره في ذهن المتلقي، وهذا العالم الذي نقصده هو الفضاء الحكائي، الذي يصبح لا هو واقع خالص، ولا هو وهم وخيال.

وهذا ما يؤكده العديد من النقاد، بأن الروائي عندما يبدأ في بناء عالم الرواية الخاص، يضع عالما مكونا من الكلمات. وهذا العالم يخضع في خصائصه للكلمة التصويرية، التي لا تنقل إلينا عالم الواقع بل تشير إليه فقط، لكنها تخلق صورة مجازية في ذهن القارئ المتلقي[34].

ويشير "أوجدن وريتشاردذ" في كتابهما (معنى المعنى)[35]، إلى تلك العلاقة بين عالم الرواية التخييلي وعالم الواقع، من خلال صيغة الدال والمدلول، فالدال هو الكلمات التي تشكل هذا العالم التخييلي (من خلال الوصف)، أما المدلول فهو العالم الخيالي الذي تخلقه الكلمات في ذهن القارئ. وقد يحاكي هذا العالم الخيالي الواقع، وقد لا يحاكيه، فإذا كان لا يحاكيه فهو بذلك مجاز، وإن حاكاه، يستطيع القارئ أن يتحقق من هذا العالم الخيالي، من خلال ما يتفق مع ثقافته المجتمعية، ومعرفته المحدودة بهذا العالم الواقعي.

وقد أشار "جيرار جنيت" إلى النقطة نفسها، عندما ذكر أن لغة الأدب لا تقوم بوظيفتها بطريقة بسيطة؛ فليس للتعبير الأدبي معنى واحد، بل تتضاعف معانيه وتكثر، إذ يمكن للكلمة الواحدة أن تحمل أكثر من معنى واحد، فهناك المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، والفضاء الدلالي أيضا يتأسس بين مدلول حقيقي ومدلول مجازي[36].

فالروائي بإمكانه التعبير عن (الفضاء الإيحائي) –كما يسميه جنيت في كتابه أشكال- بتعبيرات غير مباشرة، يتولد منها أمكنة لا نهائية، مثل قول القائل: أبحر، سمع المؤذن، مر بحقل...إلخ[37].

فمثل هذه الأفعال أو الجمل، تحيل إلى عوالم لا حدود لها، وهي كلها تشير في معانيها إلى أماكن مختلفة، فالفعل (يبحر) مثلا، يحيل إلى مكان مفتوح هو البحر، ويتسم هذا المكان بأنه يتغير، بالإضافة إلى أن هذا المكان يربط بين مكانين آخريْن، مكان تخرج منه الشخصية، ومكان آخر تقصده وتذهب إليه.

والذي (يسمع المؤذن)، يحيل هذا الآذان إلى مكان بعينه هو المسجد، كما يعني أن الشخصية تعيش ببلاد الإسلام. أما الذي (يمر بحقل)، يحيل إلى مكان مفتوح يتغير، فهو يمكن أن يكون أخضر، وهو بذلك يدل على الخصب والنماء من ناحية، أو على حداثة زراعته من ناحية أخرى، كما يمكن أن يكون هذا الحقل أصفر، وبذلك يدل على الجفاف، أو أن الحقل لا يزال في طور الحرْث... إلخ.

وهكذا، حيث لا ينتهي الأمر فكل حيز في الرواية سيولِّد في ذهن المتلقي حيزا آخر إلى ما لا نهاية. ولأن اللغة -كما ذكرنا- ستضاعف لنا التعبيرات ومن ثم الإيحاءات المكانية، فلن نتعرض لهذا الفضاء الإيحائي (غير المباشر)، وسنكتفي في دراستنا فقط بتحليل الفضاء المُعطَى بشكل مباشر في الرواية، والذي تلعب اللغة في بنائه أيضا دورا مهما.

فالفضاء الروائي مثله مثل المكونات الأخرى للسرد، لا يوجد إلا من خلال اللغة، التي من شأنها أن تتضمن كل المشاعر والتصورات المكانية التي تستطيع الكلمة التعبير عنها، سواء كانت ملموسة ندركها بالبصر أو السمع، أو كانت ضمنية تدرك بالعقل والمنطق[38]. فالكلمات هي التي تصنع أمكنة ذات مقومات خاصة، وأبعاد متميزة، من خلال قدرتها على الإيحاء واستثارة الخيال، حتى لو أشارت الرواية نفسها إلى أسماء أماكن حقيقية، فسيظل هذا الفضاء فضاءً لفظيا ينشأ في خيال المتلقي.

وكما ذكرنا من قبل فالنقد الأدبي لم يستطع التوصل إلى صيغ محددة لبناء الفضاء في النص الروائي، تتخذ صفة الشمولية، وتقبل التطبيق على الأماكن الروائية المختلفة، للأمم ذات الثقافات المتنوعة، كما هو الشأن في صيغ تقديم الشخصية أو البنية الزمنية.

لذلك سننطلق في مرحلة التطبيق في هذا المبحث، من داخل الروايتين موضوع الدراسة، وهما (الوقائع الغريبة، وابتسامة الجدي)؛ حيث ستفرض علينا طبيعة كل منهما، تقسيما خاصا للأماكن التي تشكل الفضاء فيهما.

المصدر: بنــاء الشخصيــة في روايتي «ابتسامة الجدي» لدافيد جروسمان و«المتشائل» لإميل حبيبي، دراسة في ضوء نظرية التلقي، رسالة دكتوراه غير منشورة، إعداد: رشا عبد الحميد محمد، كلية الألسن، جامعة عين شمس، 2011



[1] سمر روحي الفيصل، الرواية العربية "البناء والرؤيا"، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص47.

[2] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990 ص26.

[3] المرجع السابق، ص33.

[4] عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد (240)، 1998، ص132.

[5] ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، تر: فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، ط3، 1986، 48.

[6] المرجع السابق، ص61.

[7] عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص130- 131.

[8] حميد لحمداني، بنية النص السردي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1991 ص53.

[9] المرجع السابق، ص53، نقلا عن: H. Mitterand: le discours du roman, P.U.F, 1980, p.193.

[10] مرشد أحمد، البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصر الله، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005، ص129.

[11] المرجع السابق، ص132.

[12] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص25.

[13] سيزا قاسم، بناء الرواية، الهيئة العامة للكتاب، إصدارات مكتبة الأسرة، 2004.ص104.

[14] راجع: المرجع السابق، ص104- 105.

[15] عبد الرحيم مراشدة، الفضاء الروائي، إصدار وزارة الثقافة، عمان، 2002، ص9.

[16] سعيد بنكراد، السيميائيات السردية، ص137.

[17] حميد لحمداني، بنية النص السردي، ص63.

[18] المرجع السابق، ص63- 64.

[19] عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص122.

[20] جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، ص157 وما بعدها.

[21] سيزا قاسم، بناء الرواية، ص106.

[22] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص26.

[23] المرجع السابق، ص26.

[24] عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص121.

[25] المرجع السابق، ص121.

[26] محمد علي التهانوي، كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق: علي دحروج، دار نشر مكتبة لبنان، بيروت، ط1، 1996، ج1، ص725- 727.

[27] ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ص112.

[28] حميد لحمداني، بنية النص السردي، ص55.

[29] المرجع السابق، ص55- 56.

[30] المرجع السابق،ص56.

[31] عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص123.

[32] حميد لحمداني، بنية النص السردي، ص62.

[33] روبرت هولب، نظرية التلقي، ص61.

[34] سيزا قاسم، بناء الرواية، ص108.

[35] C. K. Ogden, I. A. Richards, The Meaning of Meaning: a study of the influence of language upon thought and of the science of symbolism, London, 1953.

[36] محمد عزام، شعرية الرواية، ص49.

[37] راجع: عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص124.

[38] حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص27.


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button