موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية


عجباً لأمر اللغة العبرية !

منذ ثلاثة آلاف عام تحدث اليهود العبرية، وها هى قد استعادت عوالمها لتصبح الآن لغة حية. وإذا لم تكن العبرية المعاصرة هى نفسها اللغة التى تحدث بها اليهود القدامى فهذا أيضاً لأمر مثير للدهشة، فعندما يقرأ المرء غير المتخصص فى علوم اللغة سفر القضاة سيعتقد - بشكل تلقائى- أن "جدعون" تحدث بنفس اللغة التى نتحدث بها الآن، إلا أن المتعمق فى جوهر الكيان اللغوى سوف يفكر فى هذا الأمر. إذ إن اللغوى الذى ينتمى لأنصار المنهج المعيارى سيعى أن هذه عبرية وتلك عبرية، وأنهما ليستا لغة واحدة . 

  والسؤال الذى يطرح نفسه الآن : ما هو جوهر الكيان المسمى 

 " لغة " ؟ 

إن اللغة الصينية تختلف عن اللغة العبرية، فثمة اختلاف بين مختلف اللغات فى الثروة المعجمية وفى طريقة إنتاج الكلام والنطق، ولا توجد قوانين تربط تراكيب لغة ما بتراكيب لغة أخرى. وفى حال وجود جوانب شبه بين لغتين فإنها تكون جوانب لغوية عامة إلى حد كبير، لا تنم عن أية علاقة بين هاتين اللغتين. وخلاصة القول إنه مهما كانت دراية المرء باللغة العبرية فلن يستطيع فهم اللغة الصينية.

 واللغة العربية قريبة إلى حد كبير من اللغة العبرية، لذا فمن اليسير التوصل إلى استنتاج مفاده أن اللغة العبرية واللغة العربية وكيانات لغوية أخرى هى من نتاج أسرة لغوية واحدة، هى أسرة اللغات السامية. فكلتا اللغتين تشتملان على مفردات أساسية متشابهة تدلل على تقارب فى الأصل، وهو تقارب غير ناجم عن تأثير ثقافى متأخر. وطبيعى أن يختلف - غالباً- نطق هذه الكلمات متقاربة الأصل، لكن مـن خلال إحداها يمكن التعرف على الأخرى.

   وها نحن نرصد فى اللغة العربية ظواهر نحوية رئيسة تجعل منها لغة قريبة من اللغة العبرية، إذ تشتمل اللغة العربية مثل اللغة العبرية - على العكس من لغات أخرى - على منظومة من الأوزان. لذلك - وعلى الرغم من أن غالبية الصيغ فى العبرية ليست مطابقة لنظائرها العربية - يستطيع اللغوى  أن يسجل مجموعة من القوانين التى يمكن من خلالها الربط بين تلك الصيغ. وهكذا الأمر فى الثنائيات التاليــــة :

- כַּלְבְּ – כֶּלֶב (كلب)

- אַרְדְּ – אֶרֶץ (أرض)

وكذلك الصيغتان :

-  מַקְטַלֻנ – מִקְטָל (مَقْتَلٌ – مِقْتال)

فهذه كلمات تبدو مختلفة عن بعضها، إلا أنها قابلة للربط بواسطة قوانين بسيطة تسرى على كلمات عديدة بين العبرية والعربية .

  لكن على الرغم من التقارب بين هاتين اللغتين، إلا أنه من المؤكد أنه لم يُذكر قط أن العبرية والعربية لغة واحدة، فمهما بلغت دراية المرء باللغة العبرية فلن يعرف اللغة العربية. وكذلك لا تُمَكِّن المعرفة بالقوانين التى تربط اللغة العبرية بأخواتها من الساميات من الإلمام باللغة العربية. ونتطرق فيما يلى إلى طبقات اللغة العبرية:

 إن العهد القديم وجزء من أدب المشنا مدون باللغة العبرية. وقد يحدث أن يستخدم الأديب لغة العهد القديم ولغة المشنا فى إنتاجين مختلفين، ويفهمهما القارىء بنفس المستوى. فحقيقة أن اليهود القدامى كانوا قد تحدثوا بهاتين اللغتين يدفع البعض إلى القول إن هـذه عبرية وتلك عبرية أخرى. لكن  المرء غير المتخصص فى اللغة لا يستطيع أن يحدد لنفسه إطاراً حول ماهية اللغة التى يستخدمها، فهو  قد يشعر بوجود فارق لغوى بين النصين، إلا أنه لن يُقَعِّدَ القواعد ولن يضع حدوداً لهذين الواقعين اللغويين، بيد أن الباحث فى الأصول اللغوية هو الذى سيحدد الجذور اللغوية لكل نص. فاللغوى الذى يقارن ظواهر اللغة بشكل منهجى هو الوحيد الذى سيثير التساؤل التالى: هل لغة العهد القديم ولغة المشنا لغة واحدة ؟

إن المتخصص فى علوم اللغة سيعى أن الثروة المعجمية فى اللغتين مختلفة إلى حد كبير على الرغم من التقارب الشديد بين أصول تلك المفردات، ففى إطار المفردات المتشابهة تنضوى عبرية العهد القديم على وحدات معجمية لا تنضوى عليها عبرية المشنا والعكس. وفضلاً عن ذلك، فإن غالبية الكلمات فى هاتين اللغتين قد غيرت من دلالاتها، فمثلاً دلالة الفعل (לָקַח)(أخذ) فى لغة العهد القديم تختلف عنها فى لغة المشنا، إذ تقترب دلالته فى تلك اللغة الأخيرة من دلالة الفعل (קָנָה)(اشترى) فى العبرية المعاصرة. وكذلك الفعل (נָתַן)(أعطى)، فعلى الرغم من اتساع دلالته فى العهد القديم إلا أن دلالته هذه تختلف عنها فى عبرية المشنا. إذن فالمقارنة المنهجية لدلالات الأفعال بين لغة العهد القديم ولغة المشنا تشير إلى أن غالبية الأفعال فيهما قد غيرت من دلالاتها.

 ومما لا شك فيه أن نحو لغة العهد القديم قريب من نحو لغة المشنا مـع وجود فروق رئيسة بينهما، فالأوزان بينهما غير متطابقة، حيث تقل الأوزان الموجودة فى عبرية العهد القديم وكذلك فى العبرية المعاصرة عنها فى لغة المشنا. وكذلك لا يوجد بينهما تناظر فى دلالات الأوزان، إلى جانب وجود اختلاف فى بنية الجمل. وتزخر كتب (אבא בן דויד) (أبا بن دافيد) بالعديد من المقارنات فى هذا الموضوع.

وتبدو لغة العهد القديم ولغة المشنا متقاربتين، حتى إنهما تستخدمان جنباً إلى جنب فى اللغة المعاصرة وهما مختلفتان عن بعضهما كل الاختلاف. ومن ثم هناك سؤال يطرح نفسه وهو: متى نكون بصدد لغة واحدة ؟ ، ومتى نكون بصدد لغات متقاربة ؟

 قـد يصعب على اللغوى تحديد ذلك الأمر، فكم من لغات مختلفة تُعامل - على الرغم من اختلافها -كلغة واحدة، فكل استقراء يمنح كياناً لغوياً مسمى خاص كالعبرية أو العربية أو الانجليزية يعتمد على القواعد المشتركة بين اللغات، ويركز على ما هو مشترك ويتجاهل ما هو خاص، لذا فلا توجد قواعد موحدة محددة. فمثلاً قد توجد لغتان متقاربتـان وتسميان باسمين مختلفين، وتوجد لغات لا صلة بينها ويطلق عليها نفس الاسم. وكذلك هناك من اللغات ما تُكنى باسم إضافى مُخَصِّص نحو: عبرية العهد القديم أو عبرية المشنا، والفيصل ههنا ليست المعايير اللغوية فحسب، بل تؤخذ فى الاعتبار كذلك معايير تاريخية مختلفة. الأمر الذى يستدعى تساؤلاً مهماً: هل أفرزت بعض هذه اللغات أدباً مكتوباً أم أنها كانت مجرد لغات حديث؟ 

 على أية حال فما يهمنا فى هذا الموضع هو أن لغة العهد القديم ولغة المشنا ليستا لغة واحدة، أما عن مسألة إطلاق نفس الاسم عليهما فهو أمر ثانوى. وكذلك يمكن القول أيضاً إن العبرية المعاصرة والعبرية التى تحدث بها "جدعون" القاضى ليستا لغة واحدة، علماً بأن حقيقة التقارب التاريخى والعرقى بينهما هى ما تسوغ إطلاق اسم مشترك عليهما. 

 وعند المقارنة بين العبرية المعاصرة وعبرية العهد القديم، ينبغى علينا أن نبحث فى مصادر المعرفة بعبرية العهد القديم، غير أن بحث كهذا قد يتسبب فى وقوع الشخص غير المتخصص فى اللغة فى اضطراب، إذ إننا بصدد كتاب كبير هو (العهد القديم) الذى يعد وثيقة جامعة للغة تلك الفترة القديمة. فالعهد القديم ربما يزودنا بمعلومات كافية - إلى حد كبير - فى مجال الثروة المعجمية، ثم يأتى دور السياقات المختلفة للإشارة إلى المعانى الدقيقة للمفردات، والتى قد تتم من خلال الرجوع إلى دلالاتها فى مصادر أخرى.

 والتركيب فى العهد القديم متبلور بشكل يكاد يكون كاملاً، فالطريقة التى صيغ بها العهد القديم تُمَكِّنُ من استيضاح بنية الجملة ونظام المفردات وطرق ارتباطها ببعضها. ولكن لا يعد محتوى العهد القديم فى بعض المجالات الأخرى كالأصوات والصرف كافياً لإعادة بناء اللغة، فالتشكيل فى العهد القديم ليس دليلاً كافياً، إذ إن النص المقرائى قد شُكِّلَ بعد أكثر من ألف عام من التلفظ بألفاظه، ومن ثم فمن الصعب أن نحدد النظام اللغوى الذى انتهجه من قاموا بتشكيله. هـل إنهم قد اتبعوا العرف اللغوى المتبع بين جيل وآخر ؟ أم أنهم قد اتبعوا النظام المتبع فى لغتهم ؟.

وكذلك إذا كنا بصدد عرف لغوى فينبغى التساؤل عن جذوره وإلى أى فترة ينتمى. وقد اختلف اللغويون فى ذلك، إلا أن الأمر الذى لاشك فيه هو أن النظام اللغوى المتبع فى النص المُشَكَّل لا يمكن إرجاعه إلى فترة القضاة.

ويعاود التساؤل طرح نفسه: كيف تم الحديث باللغة العبرية قديماً ؟

 إن أكثر المصادر أهمية للتعرف على عبرية العهد القديم هو مقارنتها باللغات السامية الأخرى. فالتقارب بين العبرية والكنعانية والآرامية والعربية وأيضاً الأكادية جدير بأن يكون نتيجة علاقة أساسية بينها، ومن المؤكد وجود تأثيرات متبادلة متأخرة - إلى حد كبير- تعد نتاجاً لاتصال بين لغتين فى فترة متأخرة نسبياً. وعلى أية حال، فإن المقارنة اللغوية لعلى درجة كبيرة من الأهمية، فإذا رصدنا الصيغ اللغوية المتناظرة فى اللغات السامية المختلفة فسوف يكون فى إمكاننا استخلاص نتيجة تتعلق بصيغ الكلمات فى العبرية القديمة، فالبحث المقارن هذا من شأنه أن يقربنا من أصل تلك الصيغ، لكنه لن يجيب إجابة واضحة عن التساؤل الخاص بماهية اللغة العبرية فى كل فترة من فتراتها. 

 وتحيلنا كتابة اللغة العبرية بطرق الكتابة الخاصة بلغات أخرى إلى جانب الوثائق الدالة على هذه الكتابات إلى معلومات مهمة. وتعد رسائل تل العمارنة الموجودة بمصر والتى ترجع إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد مصدراً مهماً فى هذا الموضع، ففى تلك الفترة تَشَبَّه حكام كنعان بملوك مصر وتوجهوا إلى السلطة المركزية فى مصر من خلال مراسلات سياسية، وكانت لغة الحديث الخاصة بهم هى الكنعانية، وهى لغة قريبة من اللغة العبرية. وتتشابه هاتان اللغتان إلى حد يجعل البعض يرى فيهما لغة واحدة تشعبت إلى عدة لهجات. وقد كتب الحكام المحليون فى كنعان رسائلهم باللغة الأكادية التى ارتبطت فى ذلك الوقت بعلاقات دولية، حيث كُتبت رسائل تل العمارنة باللغة الأكادية على يد أناس تحدثوا الكنعانية واتخذوها أداة تفكير لهم، إلا أن حكام كنعان قد فضلوا التحدث بلغتهم الأصلية (اللغة الكنعانية)، الأمر الذى أدى إلى إصابة اللغة الأكادية المستخدمة فى كتابة رسائلهم ببعض الاضطراب، حيث تظهر فى النص كلمات عديدة جاءت على صيغتها الكنعانية وليست الأكادية، وأضاف أولئك الكُتاب أيضاً فى مواضع مختلفة إضافات باللغة الكنعانية. 

 وتكمن إجابة التساؤل الخاص بمدى فائدة البقايا اللغوية التى يرجع أصلها إلى اللغة الأكادية أكثر مـن تلك التى ترجع إلى أصل كنعانى إلى طبيعة الخط الأكادى، فالخط الأكادى كان خطاً مقطعياً، فى حين اعتمد الخطان الكنعانى والعبرى على الصوامت فحسب، فكانت رموزه مرتبطة بمقاطع تنضوى على صوامت وحركات، وبذلك ميَّز الكاتب الأكادى من خلال الحركات بين المقاطع المتشابهة، الأمر الذى لم يكن معبراً عنه فى الخط الكنعانى. غير أن اللغة الكنعانية التى وُجدت فى رسائل تل العمارنة كتبت بخط عبر بدقة عن نطق مفرداتها، لذا فنحن نتعرف الآن على الكيفية التى كانت تنطق بها اللغة الكنعانية فى فترة موغلة فى القدم من خلال المداخلات الكنعانية فى النص الأكادى. 

 وهكذا يتضح لنا من خلال رسائل تل العمارنة أن الصيغة العبرية الخاصة باسم الذات فى تلك الفتـرة كانت تنتهى بحركة كما فى كلمة (חַצִרֻ) تلك الكلمة التى أُخذت عنها بعد ذلك كلمة (חָצֵר)(فناء). ومن خلال الفـارق بين كلمة (חַצִרֻ) بالحركة النهائية، وكلمة (חָצֵר) ساكنة الآخر يُستنتج الفارق بين (חֲצֲר-מִשְחָקִים) و (חָצֵר)، ليس فقط فى عبرية العهد القديم ولكن فى العبرية المعاصرة كذلك.

 وثمة مصدر آخر لمعرفتنا بعبرية العهد القديم هو (الترجمة السبعينية)، وهى الترجمة اليونانية للعهد القديم. وقد وُضعت تلك الترجمة بعد فترة العهد القديم بسنوات طوال. وهى ترجمة من شأنها أيضًا أن توضح كيف جرت الصيغ فى اللغة العبرية. ولعل دهشةً قد تستثار فى هذا الموضع، إذ كيف يمكن لكلمة يونانية تعد ترجمة لكلمة عبرية أن تشهد على نطق الكلمة الأصيلة ؟ ، كيف يمكن لترجمة بلغة أجنبية أن توضح نطق الكلمات فى اللغة الأصلية ؟.

يعود أصل معرفتنا بهذا الأمر إلى أسماء الذات الخاصة، فاسم الذات الخاص لا يُترجم، لكنه يُنقل إلى أدوات اللغة الأخرى. فالنظرة المتروية فى أسماء الذات الخاصة الواردة فى الترجمة السبعينية تمدنا بمعرفة جديدة للغاية عن بعض قوانين اللغة العبرية فى تلك الفترة  كان الكاتب قد سمع بها تلك اللغة. ومن ثم تعد الترجمة السبعينية تسجيلاً جزئياً للعبرية فى فترة إنتاج هذه الترجمة، وهكذا ندرك أن التشكيل السيجولى (סגוליזציה) وهو ظهور حركات سيجولية فى المقطع المغلق فى العبرية نحو (כּותַבְתְּ) (כּותֶבֶת) تم فى فترة متأخرة، إذ إنها لم تكن مكتملة فى فترة الترجمة السبعينية. ويتضح كذلك من خلال أسماء الذات الخاصة فى النص المقرائى المشكل وجود التشكيل السيجولى (סגוליזציה) نحو (אֲבִימֶלֶךְ)، وهكذا يدل النص اليونانى على كيفية التحدث باللغة العبرية فى فترة موغلة فى القدم. 

 ويجب على كل من يطالب بمقارنة العبرية المعاصرة بعبرية العهد القديم أن يقف على حجم الكيان اللغوى المسمى (عبرية العهد القديم)، فهذه التسمية تنضوى على تعميم كبير، حيث يشتمل النص المقرائى على كيانات لغوية وُجدت فى فترات متباعدة عن بعضها، من فترة القضاة وحتى فترة الهيكل الثانى، وينضوى كذلك على كيانات لغوية جرت فى مواضع مختلفة، فيوجد فى عبرية العهد القديم لغة مبكرة وأخرى متأخرة، ويوجد بها كذلك لغة تم استخدامها فى أورشليم وكذلك أصداء للغة شمالية. لذا فالتعامل مع لغة العهد القديم كلغة واحدة يعد أمراً خاطئاً، ويعد مفهوم عبرية العهد القديم مفهوماً واهناً إلى حد كبير، فالمعرفة التامة بهذا الأمر هى وحدها التى تسوغ استخدامه، إذ المقصود فى هذا الموضع ليست عبرية العهد القديم على وجه الخصوص، بل عموم الكيانات اللغوية الواردة فى العهد القديم، والتى تنم مقارنتها بالعبرية المعاصرة عن خصوصية مشتركة.

المصدر: העברית שלנו והעברית הקדומה,אליעזר רובינשטיין, האוניברסיטה המשודרת, 1980


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button