د.رشا عبد الحميد محمد، كلية الألسن، جامعة
عين شمس
إذا قلنا حقا
بأن هناك نظرية ما آخذة في الظهور والتأثير على الاتجاهات النقدية السائدة، فهذا
لابد وأن يعني أن هذه النظرية قد تهيأ لها المناخ الملائم الذي يساعدها على
الازدهار، والذي يتمثل في توافر المادة اللازمة. كما أن هناك بالتأكيد عوامل أخرى
أثرت كذلك في تبني الأغلبية العامة لهذه النظرية، «حيث إن نشوء نظرية ما، هو
بمثابة جواب عن سؤال، واستجابة لحاجة ملحة، فالنظرية الجديدة لا تنشأ إلا إذا وقعت
أزمة في الأسس، وبذلك تكتسب مشروعيتها من خلال محاولاتها للوصول إلى نموذج آخر
بديل يتجاوز النماذج السابقة، ويحل الأزمة[1]»
وقد أشار
"فانسون جوف" في كتابه (ما القراءة؟) إلى أن السبب في الاهتمام بالقراءة
والقارئ، هو المأزق الذي عرفته الدراسات الشكلانية، والتطور الذي حدث في ميدان
اللسانيات. «لقد بدأ الاهتمام بالقراءة يتطور في الوقت الذي عرفت فيه المقاربات
البنيوية بعض الفتور، إذ تبين أن اختزال النص الأدبي إلى مجموعة من الأشكال عديم
الفائدة. وهكذا أصبحت الشعرية في مأزق، إذ أن كل دراسة تعني بالبنيات فقط تؤدي إلى
نماذج عامة وناقصة جدا[2]».
وهناك سبب آخر يتمثل في «إضافة فرعا ثالثا
للفرعين المعهودين للدراسات اللسانية: فإلى جانب "التركيب" الذي يعني
بدراسة العلاقة بين العلامات، و"علم الدلالة" الذي يبحث في علاقة
العلامات بما تدل عليه، ظهرت "التداوليات"، أي البحث في علاقة العلامات
بمستعمليها. وهكذا فالتداوليات ستركز على التفاعل داخل الخطاب، بين الإرسالية والمُرسَل
إليه، أي بين النص والقارئ. ومن ثم سيحدث تحول كبير في علاقة المكونات التي يتم
بها التواصل، وسيعاد النظر في تحديد الأدب وطريقة دراسة النصوص[3]».
ومن القصور
أن نفصل نشأة نظرية التلقي عن المذاهب الفكرية والسياسية التي كانت سائدة في ذلك
الوقت في ألمانيا، «حيث إن الفكر النقدي الحديث في المجتمع الغربي ليس فكرا خالصا
للأدب، بل تتداخل في مفاهيمه الجوانب الأدبية والمنازع الفكرية والمذهبية بصورة
معقدة[4]».
و«على الرغم
من أنه من السهل الكشف عن المبشرين بنظرية التلقي فإن القول بتأثيرهم أمر بالغ
الصعوبة[5]».
فهناك بالفعل فارق مميز بين الإرهاصات المختلفة وبين التأثير الفعلي، فإثبات التأثير
أمر أكثر تعقيدا بعض الشىء، بما في ذلك المبادئ التي طورتها نظرية التلقي نفسها.
لذلك سأحاول
في الجزء التالي تتبع النظريات، التي أعطت نظرية التلقي مادتها اللازمة ليكتمل
نموها، وأتاحت لها المناخ الفكري لكي تزدهر. وهذه النظريات قد حددها "روبرت
هولب" في خمسة من المصادر الفكرية، التي ظهرت أو عادت إلى الظهور خلال
الستينيات، والتي رآها مؤثرة في ظهور النظرية ورواجها، وهي: "الشكلانية
الروسية"، و"بنيوية براغ"، و"ظواهرية رومان إنجاردن"،
و"هرمنيوطيقا هانز- جورج جادمر"، و"سوسيولوجيا الأدب"[6].
مصادر نظرية التلقي:
أولا: الشكلانية الروسية:
تأثر النقد الألماني بالشكلانية الروسية التي تهتم
اهتماما مباشرا بالتحليل النصي اعتمادا على الملامح اللغوية للنصوص، ولكن من منظور
آخر هو التركيز على العلاقة بين القارئ والنص. فقد استفاد رواد التلقي من اهتمام
الشكلانيين الروس بمسألة الإدراك الجمالي، الذي أدرجوه تحت مفهوم الشكل، كما
استفادوا من تعريفهم للعمل الفني بأنه مجموع "عناصره"، ولابد لدراسة
العمل الفني من دراسة هذه العناصر، الأمر الذي أعطى اهتماما بالتفسير وخلق طريقة
جديدة له. وفيما يتصل بتاريخ الأدب كان لتسليم الشكلانيين بـ "التطور
الأدبي" – متضمنا الصراع بين المدارس المختلفة من أجل السيادة – كان له أصداء
قوية في النظرية الألمانية الجديدة[7].
وإذا تطرقنا
لماهية الإدراك، نجد أنه يعني استقبال الأشياء من العالم الخارجي لنقلها إلى
العالم الداخلي عند الإنسان بعد تنظيمها. ويؤدي تكرار الإدراك إلى التعود عليه، أو
ما يسميه شكلوفسكي "الإدراك الآلي"، حيث يرى أن هذا الإدراك الآلي
«يقودنا لا محالة إلى الإخفاق في "رؤية" الشىء فإذا بنا – بدلا من ذلك –
نتعرفه لا أكثر، أي ندركه بطريقة مألوفة[8]». وهذا
الإدراك الآلي "العادي" يخالف الإدراك الجمالي؛ فالإدراك الجمالي يحدث
من خلال الصورة الفنية.
حيث إن وظيفة
الفن هي أن يجرد إدراكنا من عاديته وأن يعيد الشىء إلى الحياة مرة أخرى. وهكذا
يصبح دور المتلقي " الشخص المدرك" بالغ الأهمية لأنه هو الذي يقرر
الخاصية الفنية للعمل[9].
وأكثر ما
يساعد القارئ على الإدراك الجمالي هو تغريب هذه الصورة الفنية. و"التغريب" هو عملية تُنشئ علاقة
بين القارئ والنص، من خلال نزع الشىء من حقله الإدراكي العادي، لتزيد صعوبة
إدراك الصورة ومدتها، لأن عملية الإدراك في الفن هي غاية في ذاتها، ولابد من
إطالتها لإحداث الأثر المطلوب لدى القارئ[10].
تأثرت نظرية
التلقي بشكل كبير بأفكار البنيويين، خاصة تلك التي تجسدت في أفكار "جان
موكاروفسكي" “Jan Makaryovsky”، الذي يعد أحد أهم منظري الأدب في مدرسة
براغ البنيوية.
وترجع أهمية
موكاروفسكي كمنظر في التأثير على نشأة نظرية التلقي إلى تحول رؤيته النظرية بشكل
ملحوظ مع منتصف الثلاثينيات، حيث كان واحدا من الشكلانيين الذين يؤمنون بأن
التحليل الأدبي لا ينبغي له أبدا أن يجاوز الحدود التي عينها العمل الأدبي ذاته؛
غير أنه كتب مقالا في عام 1934 يحمل في ثناياه اعترافا بأن البنيوية هي مرحلة وسطى
بين الشكلانية "الصرف" التي لا تعرف سوى التطور الداخلي والذاتي للأدب (المؤلف والنص)، وبين النقد التقليدي الذي ينصب
اهتمامه على الجانب الحيوي الخارجي وحده (التاريخ والمجتمع)[11].
ثالثا: ظواهرية "رومان إنجاردن":
الظواهرية هي
ترجمة لكلمة فينومينولوجيا “Phenomenology” الإنجليزية، والتي تعني في معناها العام
«دراسة وصفية لمجموع الظواهر كما هي عليه في الزمان والمكان[12]».
وتعد الفينومينولوجيا الاتجاه الفلسفي الحديث الذي يركز على الدور المركزي للقارئ
في تحديد المعنى، إذ يذهب "هوسرل" “Husserl” إلى أن الموضوع الحق للبحث الفلسفي هو
محتويات وعينا وليس موضوعات العالم[13].
فـ"هوسرل"
يرى أن "الرؤية" هي المصدر الأعلى لكل إثبات عقلي، أو حسب تعبيره «الوعي
المانح الأصلي»، حيث ينبغي الاتجاه إلى "الأشياء" ذاتها -وهذه هي
القاعدة الأولى والأساسية في المنهج الفينومينولوجي- ولا تدل كلمة شئ على أن هناك
شيئا مجهولا يوجد خلف الظاهرة، ذلك لأن فلسفة الفينومينولوجيا (أو علم الظاهرات)
لا تشغل نفسها بالبحث في ذلك، وهي لا تتجه إلا إلى المعطى، بدون أن تهتم بالتمييز
بين إذا ما كان ذلك المعطى حقيقة أم وهم[14].
وقد أضاف
"مارتن هيدجر" “Martin Heidegger” تلميذ هوسرل نقطة مهمة في المنهج
الفينومينولوجي وهي أن الإنسان لابد وأن يمتزج بموضوع وعيه نفسه، فضلا عن أن
التفكير لابد وأن يكون في موقف، فهو تفكير تاريخي دائما، والتاريخ هنا لا يشير إلى
التاريخ الخارجي الاجتماعي بل إلى التاريخ الداخلي الشخصي[15].
وقد انتفع
"رومان إنجاردن" بهذه الفكرة حين قام ببلورتها في كتابه (الحقيقة
والمنهج) عام 1975. فهو يرى «أن العمل الأدبي كيان قصدي صرف، أو خاضع لقوانين
مختلفة، بمعنى أنه عمل لا هو معيَّن بصورة
نهائية، ولا هو مستقل بذاته، لكنه يعتمد بالأحرى على فعل الوعي[16]».
ويعتبر أكثر جانب مؤثر لعمل إنجاردن
في النقد الألماني الحديث، هو بحثه في إشكالية المثالية والواقعية ، حيث إن تحليله
للمعرفة يقوم على أساس أن العمل الأدبي كيان قصدي صرف، فلا هو معيَّن بصورة
نهائية، ولا هو مستقل بذاته، أي إنه لا هو ينتمي إلى الواقع الحقيقي (الواقعية)،
ولا هو منقطع عنه نهائيا (المثالية)، وهو بذلك يعتمد فقط على وعي القارئ المتلقي
وخبرته بالعمل ذاته.
لذلك يرى إنجاردن أن العمل الأدبي
يتشكل من أربعة طبقات، كل منها يؤثر في سائرها، ومن بعدين مختلفين. وهذه الطبقات
هي:
1-
الأصوات اللفظية "المادة الأولى للأدب"، وهي الأشكال
الصوتية التي تكوِّن المعاني، وتحدث كذلك التأثير الجمالي، كالإيقاع والقافية.
2-
الوحدات الحاملة للمعنى، سواء أكانت كلمات أم جملا أم وحدات
مكونة من جمل متعددة.
3-
الأشياء المعروضة (الأحداث).
4-
وجهات النظر المؤطرة (الأصوات/ الشخصيات)، التي تظهر الأشياء
المعروضة من خلالها[17].
وهذه الطبقات الأربع في مجموعها،
والتي تمثل البعد الأول للعمل الفني، تتآلف وتظهر في صورة مجسمة متعددة الأصوات.
ويربط إنجاردن بين هذا البعد وبين القيمة الجمالية للعمل الأدبي كله. أما البعد
الثاني، وهو البعد الزمني، فيتضمن سياق الجمل، والفقرات، والفصول التي يشتمل عليها
العمل الأدبي[18].
ووفقا لإنجاردن تشكل هذه الطبقات
الأربع وهذين البعدين مجتمعة هيكلا أو "بنية مؤطرة" يقوم القارئ
بإكمالها، وهو ما يسميه إنجاردن "الخبرة بالعمل الفني". ويعني هذا أن
هناك مركبات في العمل الأدبي تمتاز بالإبهام، وهو على العكس من الأشياء الواقعية
المحددة تحديدا تاما. فالشىء الواقعي مثلا لا يمكن أن يحمل لونا فحسب، بل ينبغي أن
يكون له لون بعينه، أما الأشياء في العمل الأدبي لابد وأن تحتفظ لها بدرجة من
الإبهام.
وعلى سبيل المثال فإننا عندما نقرأ
هذه الجملة: «قذف الطفل
بالكرة»، فإننا نكون أمام عدد لا يحصى من "الفراغات"، فالجملة لم تصف
الطفل، حيث لابد لكل طفل من سن ونوع ولون بشرة ولون شعر، ولكن من الممكن للنص أن
يحدد - أو يشير على الأقل - إلى حدود لمدى الإبهام دون ذكر تفصيلات، فلو أن الجملة
السابقة وقعت في رواية تدور أحداثها في السويد مثلا، لربما تخيلنا أن الطفل قوقازي
أشقر[19].
ويستخدم إنجاردن مصطلح "التجسيد"
للدلالة على الإضافات التي يضيفها القارئ بهدف ملء الفراغات والفجوات الموجودة في
النص الأدبي، لتقريب العناصر المبهمة وفقا لتصور القارئ؛ حيث عرَّف إنجاردن
التجسيد بأنه «أهم نشاط
يقوم به القراء لاستبعاد العناصر المبهمة أو الفراغات، أو لملئها[20]».
ويرى إنجاردن أنه على الرغم من أن قيام
القارئ بملأ الفراغات بأشياء محددة، غالبا ما يكون لا شعوريا، فإنه يمثل جانبا
أساسيا لفهم العمل الفني الأدبي؛ كما يرى كذلك أن هذه العملية تتطلب منه قوة
إبداعية خاصة، حيث يجد الفرصة لإعمال خياله. ويضيف إنجاردن إنه إذا كانت عملية
التحقق العياني تعد نشاطا خاصا بأفراد القراء، فإنها بناء على ذلك تخضع لمجال واسع
من التنوع؛ فمن الممكن أن تؤثر عليها الخبرات الشخصية، والأحوال المزاجية، وسلسلة
كاملة من الاحتمالات الأخرى، ومن ثم لا تتماثل عمليتان من عمليات التحقق العياني
تماثلا دقيقا، حتى وإن صدرتا عن قارئ واحد[21].
وإذا كانت
فكرة تجسيد العمل الأدبي وتحوله إلى شئ ملموس من أهم افكار إنجاردن وفقا
لـ"وليم راي"[22]،
فإن "ولفجانج إيزر" استطاع - بعد ثلاثين عاما - أن يطور هذه الفكرة
لتكون إحدى نظريات القراءة.
رابعا: هرمنيوطيقا هانز- جورج جادامر:
أثر
"هانز – جورج جادامر" “Hans- George Gadamer” في النظرية الأدبية عندما قام بتطبيق مدخل
هيدجر الموقفي، وذلك من خلال تأكيده على «أن العمل الأدبي لا يخرج إلى العالم
كحزمة منجزة مكتملة التصنيف لمعنى، لأن المعنى يعتمد على الموقف التاريخي لمن يقوم
بتفسير هذا العمل[23]».
وهكذا جاءت
الهرمنيوطيقا الفلسفية “Hermeneutic” عند جادامر
تربة خصبة لأصحاب نظرية التلقي. حيث كانت فكرتا جادامر عن التاريخ العملي وعن
الأفق هما الموضوعان اللذان ظفرا – في الأغلب الأعم – بالتبني، خصوصا عند
"هانز روبرت ياوس" وتلاميذه، حيث اعتمد ياوس على ما ذهب إليه جادامر «من أن كل تفسير لأدب الماضي إنما
ينبع من حوار بين الماضي والحاضر، وأن محاولاتنا لفهم عمل من الأعمال الأدبية إنما
تعتمد على الأسئلة التي يسمح لنا مناخنا الثقافي الخاص بتوجيهها، وأننا نسعى - في
الوقت نفسه – إلى اكتشاف الأسئلة التي كان العمل ذاته يحاول الإجابة عنها في حواره
الخاص مع التاريخ. إن منظورنا الحاضر يتضمن دائما علاقة بالماضي، وفي الوقت نفسه
لا يمكن إدراك الماضي إلا من خلال المنظور المحدود للحاضر[24]».
خامسا: سوسيولوجيا الأدب:
كان إخفاق
جادامر في أن يدمج منظورا اجتماعيا في إطاره النظري العام هو نقطة الضعف في عمله.
فقد أدان النقاد بحق إهماله علاقات القوة الكامنة في أي نص يتداوله المجتمع، أو أي
تبادل اجتماعي. وبما أن اللغة نفسها ليست أداة حيادية، فإن نموذج جادامر الحواري،
وربطه المثالي بين الماضي والحاضر كما لو كان حديثا متبادلا بين اثنين من
المتكلمين، هو تشويه لما يحدث حقا في عملية الفهم، وهو في ذاته ذريعة إيديولوجية
كذلك تؤدي إلى تعمية العلاقات الاجتماعية التي يتم التواصل من خلالها[25].
إن هذا
الجانب الاجتماعي للنصوص الأدبية، المنتقد في تفسير جادامر الوجودي، كان هو نقطة
انطلاق مهمة لفرع جديد سُمي علم اجتماع الأدب. ووفقا لما يذكره هولب لم يكن هذا
الفرع من الدراسة الأدبية قد تطور في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية تطورا
كبيرا، لذلك فلا يثير الدهشة أن يكون المرهصون بنظرية التلقي من ذوي الاتجاه
الاجتماعي قلة نادرة[26].
وكان من أهمهم ليو لوفينتال، وجوليان هيرش، وليفين شوكينج.
وهكذا فإن
علم اجتماع الأدب يؤكد تلك الصلة الوثيقة (علاقة التأثير والتأثر) بين المجتمع
والأدب. لذلك فإن تحليل تلقي عمل ما لأحد المؤلفين في أي مجتمع ينطوي على فهم
مسيرة الحياة فيه[27].
وفي ضوء ذلك
يذهب روبير إسكاربيت "R. Escarpit" - وهو أحد
المؤسسين لعلم اجتماع الأدب - إلى أن الكاتب إنما يكتب لقارئ أو لجمهور من القراء
(ويقصد بالجمهور "المجتمع")، «فالكاتب أيا كان موضوعه هدفه أن يصل إلى
القارئ[28]».
فعندما يصنع المبدع عمله الأدبي يدخل به في حوار مع قارئه «وهذا الحوار الذي يقيمه
الكاتب بينه وبين "الجمهور" له
بالتأكيد غاية ما. مهما كانت هذه الغاية سواء كانت التأثير أو الإقناع أو الإعلام
أو التعزية أو التحرير بل وحتى لو كانت إحداث اليأس، فإن هدفه وهدف حواره هو القارئ
والجمهور[29]».
وبعد ما
قدَّمه روبرت هولب عن أهداف سوسيولوجيا الأدب، نستطيع أن نقول إن الفارق المميز
بينه وبين ما جاء في نظرية التلقي، يتمثل في أن سوسيولوجيا الأدب على اختلاف
الاجتهادات اكتفت دائما بالقارئ الكائن خارج الأعمال الأدبية موضوعا لها، أي أنها
اهتمت بالقارئ الفعلي الذي يتأثر بالمؤلفات الأدبية ويؤثر فيها مثلما تؤثر فيه[30].
مبادئ نظرية التلقي:
اشترك كل من
"هانز روبرت ياوس" "Hans-Robert Jauss"
و"فولفجانج إيزر" "Wolfgang Iser" في تأسيس
مدرسة كونستانس الألمانية للدراسات الأدبية، وإذا كان إسهام ياوس في نظرية التلقي
يرجع إلى اهتمامه بالعلاقة بين الأدب والتاريخ إلا أنه قد اهتم مع إيزر بإعادة
تشكيل النظرية الأدبية عن طريق صرف الأنظار عن المؤلف والنص، وتركيزها مرة أخرى
على علاقة النص/ القارئ، وعلى الرغم من ذلك فإن مناهجهما الخاصة في معالجة هذه
النقطة قد اختلفت اختلافا حادا، فعلى حين تحرك ياوس بصفة مبدئية نحو نظرية التلقي
من خلال اهتمامه بتاريخ الأدب، برز إيزر في مجال التوجهات التفسيرية في النقد
الجديد ونظرية النص، وفي الوقت الذي اعتمد فيه ياوس في بادئ الأمر على
الهرمنيوطيقا وكان خاضعا بصفة خاصة لتأثير "هانز جورج جادامر"، كانت
الفينومينولوجيا هي المؤثر الأكبر في فكر إيزر، وبشكل أكثر دقة كانت
لفينومينولوجيا رومان إنجاردن أكبر الأثر فيه[31].
وكانت أهم
إنجازات ياوس في نظرية التلقي، من واقع اهتمامه بتاريخ الأدب بشكل عام هواستخدامه
لمصطلح "أفق التوقعات" "Horizon of Expectations" وهذا
المصطلح يعني: "مجموعة من المعايير الثقافية التي تشكل الطريقة التي يفهم بها
القارئ ويحكم من خلالها على عمل أدبي ما في زمن ما"[32].
ويمكن أن
يتشكل هذا الأفق من عدة عوامل مثل الأعراف السائدة وتعريفات الفن، أو معايير
الأخلاق الموجودة في المجتمع. ومثل هذا الأفق خاضع للتغيير التاريخي، وذلك حتى
يمكن لجيل تالٍ من القراء أن يرى ما جدَّ من المعاني في العمل نفسه، ويعيد تقييمه
طبقا لذلك[33].
ويمكن لمؤلف
ما أن يتوقع استجابة القارئ، وذلك من خلال ثلاثة طرق: أولا من خلال المعايير
المألوفة داخل النوع الأدبي، وثانيا من خلال علاقات العمل الأدبي الضمنية بالأعمال
المألوفة في السياق الأدبي- التاريخي نفسه (علاقة المتلقي بالموروث الثقافي
"التناص")، وثالثا من خلال التقابل بين التاريخ والواقع (علاقة المتلقي
بالمجتمع "السوسيولوجيا")[34].
وبعد تأسيس
أفق للتوقع، يمكن للناقد أن يقرر المكانة الأدبية لعمل ما عن طريق قياس المسافة
بين العمل والأفق. والقيمة الجمالية لنص ما تتم رؤيته بوصفه انحرافا عن المعايير
التي تشكل حدود هذا الأفق. فإذا اخترق العمل الأفق، فسوف يكون فنا رفيعا، أما
إذا خيَّب العمل توقعات القارئ، فإن النص
سوف يكون نصا من الدرجة الثانية. وتجدر الإشارة إلى أن القارئ المتلقي يستطيع أن
يعدِّل هذا الأفق أو يدمره، أو حتى يسخر منه[35].
تطرق إيزر في
كتابه "القارئ الضمني" (1972) إلى مصطلح "القارئ الضمني""Implied
Reader" .
فقد استخدم إيزر مصطلح القارئ الضمني لمنع الخلط بينه وبين القارئ الحقيقي، وأيضا
لكي يصف التفاعل بين النص والقارئ ، حيث أشار إيزر إلى أن هذا القارئ يشارك في
إنتاج المعنى، بل تقع على عاتقه مسئولية البناء المستمر للعمل الأدبي (وفق تعبير
إيزر)[36].
وإذا نظرنا
إلى هذا القارئ الضمني –وفقا لإيزر- نجد أنه لا ينتمي إلى النص ولا إلى القارئ بل
إلى كليهما. فهو قارئ قبل الدخول إلى عالم الإبداع الأدبي، وقارئ منصًّص منذ
اللحظة الأولى لفعل القراءة. حيث يقترب هذا المفهوم كثيرا من مصطلح تنصيص القارئ
لدى المدرسة النقدية لمرحلة ما بعد البنيوية[37].
وكما ذكرنا
فقد تأثر إيزر بالمنهج الفينومينولوجي في تنظيره للتلقي، لذلك نجده يربط بين هذا
القارئ الضمني وبين إنتاجية معنى نص أدبي بعينه من واقع هذه الفلسفة الظاهراتية.
حيث يذكر أن المعنى الذي يصنعه قارئ ما بصورة إيجابية من نص أدبي ما معنى مشمول
داخل حدود بعينها، يفرضها النص نفسه.
ويشرح إيزر
ذلك إنه عندما يتأمل شخصان شكل النجوم في السماء. فقد يرى شخص ما تلك النجوم
مكوِّنة لصورة معينة ولتكن أرنب، وقد ينظر إليها شخص آخر على أنها صورة بطة. وهذا
يعني أن النجوم في نص أدبي تكون ثابتة (أي وحدات المعنى)، أما الخطوط التي تصل
بينها فمتنوعة، بتنوع نظرة الرائي لها[38].
وهذا يعني
-من وجهة نظر إيزر- التأويل وفقا لما يعطيه النص للقارئ من معلومات. وحينئذٍ يكون
على القارئ –كما أسلفنا- ملء الفراغات التي تملأ النص، وذلك من أجل الوصول إلى
أقرب صورة ممكنة لعقل القارئ الضمني، حيث يتخلص القارئ من خلال هذه الصورة المقربة
-نوعا ما- من الإبهام المقصود في النص.
خلاصة:
اهتم رواد مدرسة التلقي في تنظيرهم بتأسيس نظرية للقارئ
تقوم على فلسفتين، هما: الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجي)، والفلسفة التفسيرية
(الهرمنيوطيقا)، وتعتمد هاتين الفلسفتين على التفسير والتأويل.
وقد تناول إيزر العمل الأدبي من وجهة نظر علم لغة النص،
فاهتم بدراسة العلاقات البنائية داخل النص الأدبي، وفقا لفلسفة الظاهراتية
التأويلية، والتي تقوم بتأويل النص الأدبي كما يظهر للقارئ، حيث يقوم القارئ
بإنتاج المعنى بنفسه، من خلال عملية التجسيد التي يقوم فيها بملء فراغات النص وسد فجواته
للتخلص من الإبهام والغموض الذي هو السمة الأساسية لأي نص أدبي.
أما ياوس فقد تناول العمل الأدبي من وجهة نظر تاريخية،
فربط التاريخ والمجتمع بالنص الأدبي، وقام بتفسيره من خلال خبرة القارئ التي تتمثل
في أفق التوقعات.
ويتشكل هذا الأفق من الأعراف السائدة والخبرات الحياتية
والثقافية للقارئ، بالإضافة إلى ظروف المجتمع الذي ظهرت فيه الرواية. ووفقا لياوس،
قد يصطدم المفسر بخرق لأفق توقعاته، الأمر الذي يستلزم منه تفسير الظواهر الثقافية
والاجتماعية في النص من خلال ربطها بما هو خارجه، ومن ثم تعديل أفق التوقعات للوصول
إلى إنتاج معنى النص.
وكما ذكرنا فإن مدرسة التلقي الفرنسية قد تلقت هذه
المبادئ وقامت بتطبيقها، ولكن مع اختلاف يتمثل في أن المدرسة الألمانية ركزت على
القارئ باعتباره مسئولا عن إنتاج معنى النص من خلال تفاعله معه، أما المدرسة
الفرنسية فقد اهتمت بالقارئ كعنصر من عناصر النص الأدبي الذي لا يكتمل معناه إلا
بوجوده، ومن ثم "تنصيص القارئ".
لذلك سأتطرق إلى واحدة من أبرز النظريات النقدية لدراسة
الشخصية الروائية، والتي استفادت في تطبيقها من مبادئ التلقي، المتمثلة في التأويل
الفينومينولوجي، والتفسير التاريخي والاجتماعي للنص، وهي نظرية "فيليب
هامون". وسوف أقوم بتطبيقها على الروايتين موضوع الدراسة، للكشف عن كيفية
بناء الشخصية الروائية فيهما.
[1] أحمد بو حسن، مقال:
المحاولات الأولى للاهتمام بالقارئ، ضمن كتيب ندوة "نظرية التلقي: إشكالات
وتطبيقات"، ص25،26.
[2] فانسون جوف، ما
القراءة، فصل: القراءة تواصل مؤجل، تر: محمد آيت لعميم، ترجمة منشورة على شبكة
المعلومات الدولية، الموقع: http://webcache.googleusercontent.com.
[3] أحمد بو حسن، مقال: المحاولات الأولى للاهتمام بالقارئ،
ص26،25.
[4] محمود عباس عبد
الواحد، قراءة النص وجماليات التلقي، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1996، ص16.
[5] روبرت هولب، نظرية
التلقي، تر: عز الدين إسماعيل، المكتبة
الأكاديمية، ط1، 2000، ص11.
[6] المرجع السابق، ص12.
[7] المرجع السابق، ص50.
[8] المرجع السابق، ص51.
[9] المرجع السابق، ص51.
[10] المرجع السابق،
ص53-54.
[11] المرجع السابق، ص69-70.
[12] جميل صليبا، المعجم
الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، ج2، ص35.
[13] رامان سلدن، النظرية
الأدبية المعاصرة، تر: جابر عصفور، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة،
ط1، 1991، ص186.
[14]
إ.م. بوشنسكي، الفلسفة المعاصرة في أوروبا، تر: عزت
قرني، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد
(165)، سبتمبر 1992، ص184.
[15] رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ص188.
[16] روبرت هولب، نظرية
التلقي، ص61.
[17]
المرجع السابق، ص61- 62.
[18]
المرجع السابق، ص62.
[19]
المرجع السابق، ص62- 63.
[20]
المرجع السابق، ص64.
[21]
المرجع السابق، ص64.
[22] وليم راي، المعنى
الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، تر: يوئيل يوسف عزيز، دار المأمون، بغداد،
1987، ص42.
[23] رامان سلدن، النظرية
الأدبية المعاصرة، ص188.
[24] رامان سلدن، النظرية
الأدبية المعاصرة، ص194.
[25] روبرت هولب، نظرية
التلقي، ص88.
[26] المرجع السابق، ص88.
[27] المرجع السابق، ص90.
[28] روبير إسكاربيت،
سوسيولوجيا الأدب، تر: آمال أنطوان عرموني، دار عويدات للنشر، بيروت، ط3، 1999،
ص15.
[29] المرجع السابق، ص15-
16.
[30] عبد الناصر حسن
محمد، نظرية التوصيل وقراءة النص الأدبي، المكتب المصري للنشر، القاهرة، 1999،
ص91.
[31] سامي إسماعيل،
جماليات التلقي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2002، ص11.
[32] حسن البنا عز الدين،
قراءة الآخر قراءة الأنا "نظرية التلقي وتطبيقاتها"، الهيئة العامة
لقصور الثقافة، القاهرة، 2008، ص28.
[33] المرجع السابق، ص28.
[34]
المرجع السابق، ص28. (بتصرف)
[35] Jauss, Toward an Aesthetic of Reception, p. 19.
نقلا عن سامي
إسماعيل، جماليات التلقي، ص88.
[36] Iser,
Implied Reader, p.12.
نقلا عن: سامي
إسماعيل، جماليات التلقي، ص124.
[37] حسن البنا عز الدين،
قراءة الآخر قراءة الأنا، ص34. (بتصرف)
[38] المرجع السابق، ص36
