موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية



لقد صاحبت الأحداث التاريخية سالفة الذكر جهود ضخمة فى مجال التفسير الإسلامى بغية الموائمة بين الإسلام وواقع العلاقات الدولية المعاصرة. وبعد استقلال الدول الإسلامية عن الاستعمار الأوروبى ابتعدت عن تبنى عقيدة الجهاد، وقبلت بقواعد القانون الدولى، ومن ثم قررت الانضمام للأمم المتحدة والتزمت بالسلام مع الدول الأخرى وحل النزاعات بالطرق السلمية. ويمكن القول إن التوقيع على الوثيقة التأسيسية للأمم المتحدة يعد فى حد ذاته - فى ظاهره -  خرقاً للشريعة الإسلامية التى يعود تاريخها إلى بدايات القرن السابع، فهذا التوقيع  مثله مثل اتفاق السلام الدائم مع جميع الدول التى صنَّفها بعض كبار علماء الدين فى العصر الوسيط تحت مظلة (دار الحرب). وقد دفع هذا الواقع بعض  فقهاء الشريعة المعاصريين إلى تقديم فتاوى تُقر بأن اتفاقيات السلام بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية هى اتفاقيات جائزة ولا تتعارض مع الشريعة.

وثمة فكر إسلامى جديد يطالب بالربط بين الشريعة والواقع المعاصر، ذلك الفكر الذى تطور لأول مرة فى أوساط فقهاء المسلمين ممن يُطْلَقُ عليهم (المجدِّدون) وعلى رأسهم الشيخ "محمد عبده" المصرى المتوفى عام (1905). ويعد هذا تطوراً فكرياً متأخراً إلى حد ما. وفى حقيقة الأمر، كانت الإمبراطورية العثمانية طرفاً فى منظومة الاتفاقيات الخاصة بالدول الأوربية الكبرى قبل نصف قرن تقريباً من أولئك المجدِّدين ( والتى تمثلها بشكل قاطع معاهدة باريس 1856م). وكذلك كانت مصر والهند ودول إسلامية أخرى تحت وطأة الاستعمار لفترة زمنية طويلة، وكان زعماؤها على علاقات صداقة بالدول الأوروبية الكبرى. وهكذا كان السواد الأعظم من العالم الإسلامى فى بدايات القرن العشرين تحت حكم الأوربيين، سواء بطريقة مباشرة أو عن طريق التبعية، ذلك الوضع الذى استوجب تصنيفاً جديداً لعلاقات العالم الإسلامى مع من حوله. ويهدف التفسير الإسلامى الحديث الذى يمكن أن نطلق عليه (التفسير العملى) إلى إضفاء شرعية على الواقع المعاصر للعلاقات الدولية وإلى قبول مبادئ القانون الدولى فى العلاقات بين الدول.

وفى ذات الوقت لا يزال هناك مفكرون من أنصار التيار الإسلامي السلفى (الذين يُطْلَقُ عليهم فى كتب التراث ألقاب عديدة نحو: الأصوليين  والإسلاميين والمتعصبين والمتشددين) الذين يقدسون العقيدة الإسلامية الكلاسيكية، لكنهم يصورونها من خلال نزعة إنسانية بمصطلحات معاصرة، ويضعون تقسيماً جديداً للشعوب الكافرة، بمقتضاه لا تكون جميعها عدوة ممن يجب قتالها، فهناك شعوب استعمارية تُكِنُّ عداءً صريحاً في مقابل شعوب غير إسلامية أخرى لا يتوجب على الدول الإسلامية اعتبارها أعداء.

ويشن غالبية مفكرى الإسلام من أتباع التيار الواقعى هجوماً على الاستشراق الغربى الذى شوَّه الإسلام - حسب كلامهم - وعرضه - بشكل من التعميم - على أنه دين عاشق لسفك الدماء أو على أنه دين انتشر  بقوة السيف. وعلى الجانب الآخر، يرى - على سبيل المثال - الدكتور "إحسان الهندى" - من سوريا- أن الإسلام انتشر أيضاً عن طريق الإقناع وليس بقوة السيف فقط. ويدلل على ذلك - من خلال وجهة نظره - بالمناطق ذات الغالبية المسلمة مثل ماليزيا وأندونيسيا فى الشرق، وغانا والسنغال وتنزانيا فى إفريقيا، تلك المناطق التى لم تطئها قدم جندى مسلم قط. ويذهب كذلك بعض المفكرين المسلمين - فى لمحة دفاعية - أن الإسلام هو  الذى أرسى قواعد العلاقات الدولية المؤسَّسَة على مبدأ السلام بين الأمم. وكذلك على سبيل المثال الدكتور (محمد عفيفى) من سوريا  الذى ذهب إلى أن هناك بالفعل آيات قرآنية تجيز  وجود علاقات بين الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية  التى لا يوجد مانع من الاعتراف بها الآن باعتبارها دولاً  قائمة بالفعل، ولكونها كيانات ذات سيادة أو باعتبار المصالح التى تجمع بينها وبين الدول الإسلامية. ويذهب مفكر آخر وهو (مروان القدومى) إلى أن المسلمين قد عرفوا قواعد العلاقات الدولية قبل الغرب بألف عام تقريباً. ووفقاً لما ذكر، فقد كان الإمام (أبو حنيفة) أول من تطرق إلى العلاقات الدولية، ومن بعده "محمد الشيبانى". وقد تبنى هذا الرأى كذلك (عبد العزيز الخياط). وينظر "الهندى" - المشار إليه آنفاً - نظرة أكثر بعداً، حيث يذهب إلى أن مبادئ وثيقة جنيف الخاصة بتصرفات الدول والجيوش وقت الحرب قد شُرِّعت في الإسلام قبل إقرارها في الغرب بعصور متعددة.

وثمة أمر آخر أدرك المفكرون المسلمون (الواقعيون) ضرورة التصدى له وهو التقسيم التقليدى للعالم إلى دارين: دار الإسلام ودار الحرب. ويستند موقفهم المعارض إلى وجود مثل هذا التقسيم كذلك في اليهودية والمسيحية. فيذكر  (محمد عفيفى) - المشار إليه آنفاً – أن التوراة لا تنضوى على حدٍ أدنى من الإنسانية أو الشفقة فيما يخص علاقة اليهود بغيرهم من الشعوب. ويضيف باحث آخر وهو  (محمد خير هيكل) أن المسيحيين فى العصر الحديث هم حقاً من يستخدمون النغمة الصليبية فى الخطاب، حيث مثَّل على ذلك بما ذكره الجنرال "اللنبى" بعد احتلاله القدس عام 1917بقوله إن الحروب الصليبية قد انتهت بالفعل. وكذلك قصة الجنرال الفرنسى (هنرى جورو) الذى ذهب إلى قبر  (صلاح الدين) بعد احتلال الفرنسيين لدمشق فى الرابع والعشرين من يوليه عام 1920 وقال متحدياً  "ويحك يا صلاح الدين ! ها نحن قد عدنا".

مما لاشك فيه أن ما تم طرحه سابقاً ينضوى على  توجه دفاعى. غير أن الدفاع عن الغرب أو نقده يعد فقط بمثابة القشرة التى انبجس من تحتها فكر حديث يتبنى قيم الغرب فيما يتعلق بالعلاقات الدولية ويضمها إلى حضن الشريعة. وسأعرض - بدايةً – رؤى المفكرين المحسوبين على التيار  البراجماتى (الواقعى) والأسس التى يقوم عليها تفسيرهم الحديث، ثم أتبعه بعرض للمفكرين المحسوبين على التيار  الراديكالى (السلفى) المتمسكين بالشريعة التقليدية.

- التيار الواقعى:

الواقعيون هم المفكرون المطالبون بالموائمة بين الإسلام والشريعة وبين الواقع الحديث للعلاقات الدولية. فهم لا يطالبون بتغيير  الواقع السياسى، لكنهم مهتمون بضرورة مواكبة الشريعة للمرحلة  الراهنة، وجُلّ اهتمامهم ينصب على مكانة الشريعة الإسلامية. غير أن فكرهم يضفى شرعية على الواقع السياسى والدولى الحديث، ذلك الواقع الذى لم يظهر به الإسلام أو المسلمون كطرف فاعل فى العملية السياسية، لكن كطرف اضطر إلى قبول واقع جديد فرض عليه. ويمكن تقسيم المنتمين إلى التيار الواقعى إلى ثلاثة أطوار فكرية، يتمثل الطور الأول فى المجددين ممن عاشوا فى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ويعد الشيخ (محمدعبده) أبرزهم. ويمثل الطور الثانى (محمود شلتوت) و (محمد أبو زهرة) من مصر، و (وهبه الزحيلى) من سوريا، وهم من أتباع التيار التجديدى ويشتركون فى تلقيهم دراساتهم العليا فى الأزهر بالقاهرة. وقد دونوا أعمالهم الفكرية خلال الفترة ما بين عام 50 إلى 70 من القرن العشرين. وهؤلاء الثلاثة قد طوَّروا من التفسير التقليدى للمصادر ووسعوا أفقه وأضفوا شرعية دينية  على حالة السلم بين الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية. أما الطور الثالث من المفكرين والذى بدأ فى الكتابة فى فترة الثمانينيات من القرن الماضى  فنجد به عدداً كبيراً نسبياً من الكُتَّاب. ويرجع التضخم فى عدد الكتب ومؤلفات المفكرين المسلمين منذ بداية الثمانينيات فى مجال العلاقات الدولية فى الإسلام  - من وجهة نظرى - إلى معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر  التى تم إبرامها عام 1979 وفتوى علماء الأزهر التى تبرر عقد المعاهدة من وجهة نظر الشريعة الإسلامية (انظر: الفصل السادس). وقد أثار إعلان موقف علماء الأزهر هذا - فى ذلك الوقت - جدلاً فى العالمين العربى والإسلامى، وهو ما دفع الباحثين والمفكرين المسلمين - على ما يبدو - إلى تسطير  مؤلفات عديدة فى هذا الموضوع.

- المجــدِّدون:

يعد (محمد عبده)  زعيم المجدَّدين، تلك الجماعة التى أرادت وقف التأثير الأوروبى على العالم الإسلامى من خلال حداثة إسلامية تتواءم مع الفترة الحديثة. وقد أقر (عبده) بأن الوضع الأساس بين الإسلام وبين العالم غير الإسلامى هو وضع  التعايش السلمى وليس وضع حرب، حيث نزلت آيات الجهاد فى القرآن الكريم - وفقاً لما ذكر - فى سياق خاص يعكس تحدياً ما واجهه النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ولا تعكس نهج الإسلام كدين السلام. ويعرف (محمد رشيد رضا) - تلميذ (عبده)- مصطلح (الجهاد) بأنه (حرب دفاعية) (وسنتحدث باستفاضة عن ذلك تباعاً)، أو بأنه (الجهاد الأكبر) بدلالته الصوفية أى (جهاد النفس)(فى مقابل الجهاد الأصغر وهو الحرب). ويتمثل المنهج الرئيس لدى مفكرى الإسلام الواقعيين - عند موائمتهم بين الجهاد وبين العلاقات الدولية المعاصرة دون إبطال ما جاء فى آيات القرآن - فى ذهابهم إلى أن الحرب هى واقع دفاعى. ففى واقع الأمر، ذهب (رضا) إلى أن حروب (النبى)صلى الله عليه وسلم الأولى كانت تحمل فى أساسها طابعاً دفاعياً، وأضاف أن حالة الحرب - آنذاك- كانت حالة طبيعية ومتواصلة. وبناءاً عليه, فلم يكن مصطلح(عدوان) مصطلحاً مألوفاً. وقد عرض (رضا) رؤية جديدة لـ(الدفاع) عن الحق فى نشر الحقيقة والقضاء على الزيف. ووفقاً لذلك, فإن الحروب التى قادها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم ضد البيزنطيين كانت نوعاً من الحرب الدفاعية, حيث إن البيزنطيين كانوا قد تآمروا على طرد الذين دخلوا فى الإسلام من المناطق الحدودية مرة أخرى إلى الصحراء كى يموتوا جوعاً، وهى رؤية سطحية لكنها تخدم هدف (رضا).  ويذهب إلى أن الحرب فى التاريخ الإسلامى قد شُنِّت فقط فى وضع لا خيار فيه, وهو رفض غير المسلمين الدخول فى الإسلام أو دفع الجزية. وثمة تفسير  خاص لكل من (عبده) و (رضا) لآيات الحرب فى القرآن الكريم مثل الآية (5) من سورة التوبة (آية الحرب)، والآية (36) من نفس السورة والمتمثلة فى الأمر الإلهى " وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"، فقد وضعا تلك الآيات أمام الأحاديث الداعية للمسلمين للامتناع عن حرب جماعات تنتمى لبعض الشعوب مثل الأتراك الوثنيين والأحباش المسيحيين، واستنتجا أنه لا يمكن أن يُفهم من آيات الحرب فى القرآن الكريم أنها تتحدث عن حرب ضد الكفار فى العالم بشكل عام دون تمييز. فالجهاد بمفهومه الحربى - من وجهة نظرهما- كان موجهاً بشكل خاص ضد القبائل العربية الوثنية فى شبه الجزيرة العربية.

- أتباع المجدِّدين – شلتوت وأبو زهرة والزحيلى:

سار الشيخ المصرى (محمود شلتوت) على درب المجدِّدين، حيث أجرى إصلاحاً فى عام (1961) بعد توليه مشيخة الأزهر عام 1958، وأدخل على اللائحة الدراسية مواد غير شرعية. وقد كتب عن رؤيته فى شئون الإسلام والعلاقات الدولية عام 1948، وذهب في كتاباته إلى أن الجهاد بمفهوم الحرب المقدسة لم يكن له وجود فى النصوص الكلاسيكية, وأن آيات القرآن الكريم فى هذا الموضوع ترتبط فقط بالسياق الذى نزلت فيه. ووفقاً لما ذكر, فإن فقهاء العصر الوسيط قد أخطأوا فى تفسيرهم قضية الجهاد، لكنه قد مال إلى تفسير الجهاد بمفهوم (جهاد النفس) فحسب.

وقد طوّر (شلتوت) آراء (عبده) و (رضا) وفسر حروب الإسلام الأولى على أنها (حروب وقائية)، ذاهباً إلى أن آيات القرآن الكريم قد أقرت حالة السلم كمبدأ فى العلاقات بين الدول قبل أن تُقَر  فى القانون الدولى المعاصر بزمن طويل. وفى رأيه، ثمة ثلاث حالات للحرب هى: الدفاع عن النفس, والدفاع عن الدعوة أى رحلة نشر الدين الإسلامى والدفاع عن حرية الدين . وأضاف (شلتوت) أن المسلمين الأُول قد فسروا عداء الفرس والروم للدعوة على أنه إعداد لحرب ضدهم, وبناء على ذلك ردّوا بحرب. فوفقاً للشريعة, حُظِرَ على المسلمين آنذاك الانتظار حتى يتم الاعتداء عليهم, بل كان لزاماً عليهم البدء بالهجوم. ولا يتواءم ذلك التفسير مع مبادئ القانون الدولى المعاصر، غير أن القائلين به قد أرادوا إضفاء شرعية على النهج السلمى إزاء العالم غير الإسلامى. وعلى أية حال, يمكن أن نجد فى فكر (شلتوت) تعارضين مع القانون الدولى، يتمثل الأول فى الطريقة التى عرض بها (شلتوت) مشروعية (الحرب الوقائية) باعتبارها "منع إخضاع دولة غير إسلامية لمواطنين مسلمين وتصفية المجتمع الكافر الشرير وتذليل العقبات أمام نشر الدعوة"، ويتمثل التعارض الثانى فى إقراره بأنه إذا غلب الضرر  الناجم عن اتفاق السلام على منفعته جاز نقضه. وكلا هذين الرأيين من شأنهما تبرير الحرب ضد الدول غير الإسلامية. لكن هذا - على ما يبدو - هو الحد الأقصى لما يستطيع (شلتوت) أن يفعله فى محاولة لتطويع الشريعة من أجل تبرير السلام مع الدول غير الإسلامية. ويمكننا أن نفترض أنه كتب ذلك على افتراض أن دواعى "الحرب الوقائية" هى وضع نظرى فحسب.

أما الشيخ (محمد أبو زهرة) - وهو من نفس الجيل الذى ينتمى إليه الشيخ (شلتوت)- فقد عمل معظم حياته فى القضاء الشرعى والتدريس. ويتناول أحد كتبه الثلاثين الإسلام والعلاقات الدولية، وبه تطوير كبير  للفكر الشرعى فى هذا المجال. ونوَّه (أبو زهرة) بالتطور التاريخى للشريعة وتغيرها وفقاً لأوضاع الزمان، مؤكداً أن فقهاء الإسلام قد تعاملوا مع مشكلات واقعية. ومن وجهة نظره, يتوجب تغيير  قواعد الشريعة نظراً لتغير الواقع. فعلى سبيل المثال, ميَّز فقهاء المذهب الحنفى بين الشعوب ذات الحدود المشتركة مع الدول الإسلامية- تلك التى تحسب بناء على ذلك فى حالة حرب مع المسلمين- وبين الشعوب البعيدة جغرافياً عن الدول الإسلامية، والتى  يُمْكِنُ - بناء على ذلك أيضاً- إقامة علاقات سلمية معها. ويذهب (أبو زهرة) إلى أن هذا التمييز لا يرتبط ارتباطاً مباشراً بالواقع المعاصر، ذلك الواقع الذي تـُدار فيه حروب جوية وحروب بالصواريخ حتى بين الدول التى لا تجمعها حدود مشتركة. ووفقاً لما ذكر, فالمسلمون مفروض عليهم القتال فى حال منعهم من العمل على نشر الدين أو الاعتداء عليهم، عندئذٍ يكون قتالهم تأميناً للدعوة ولحرية العقيدة. وكتب (أبو زهرة) قائلاً " إن الفقهاء الذين عاشوا فى عصر الخلفاء الأمويين والعباسيين قد تأثروا  فى فتواهم بحالة الحرب المتواصلة بين الخلافة وبين شعوب أخرى، لذلك لم يُجَوِّزوا إبرام اتفاقيات دائمة. وأضاف (أبو زهرة) إلى أن أقوال الفقهاء لا تمثل حجة شرعية, حيث يرتبط سريان مفعولها بمدى قربها من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية. ويقرر  أن الواقع المتغير لا يعلو على القرآن, بل إن الغلبة للقرآن (ولذلك فَسَّره أبو زهرة تفسيراً حديثاً). وقد انتقد (أبو زهرة) فقهاء العصر الوسيط الذين فسروا القرآن بشكل غير موفق. فعلى سبيل المثال، فإنه بالرغم من أن الآية (90) من سورة (آل عمران) تتحدث عن وضع الشعوب التى بينها وبين المسلمين ميثاق إلا أن "السرخسى" - أحد كبار فقهاء الحنفية- قال بنسخها بفعل آيات الحرب، وأقر بأن هذا يمثل رأى جمهور الفقهاء. غير أن (أبا زهرة) قد ذهب إلى أن "السرخسى" - المتوفى عام1090م – لم يوفق فى هذا التفسير, وأن جمهور الفقهاء قد أفتوا بأن السلام هو الوضع الطبيعى، ومن ثم يجوز إبرام (اتفاق صلح) وكذلك يجب إبرامه. وقد استشهد (أبو زهرة) بـ(ابن تيمية) - أحد فقهاء القرن الرابع عشر- كنموذج للمفسر القائمة فتواه على (القرآن والسنة). حيث أقرّ  (ابن تيميه) بأنه  (لا إكراه فى الدين) -كما ورد فى القرآن الكريم 256/ البقرة- ومن ثم فالجهاد هو واقع دفاعى. لكن (أبا زهرة) قد تجاهل أن فتوى (ابن تيمية) قد صيغت عى خلفية الواقع السياسى فى زمانه, والمتمثل فى سيطرة (المغول) على الدول الإسلامية ودخولهم فى الإسلام. وأود الإشارة إلى أن فقهاء التيار الواقعى يستشهدون بـ (ابن تيمية) فى هذا الموضوع باعتباره -بشكل عام- المصدر الذى يستوحى منه أنصار التيار المتشدد رؤاهم. كما وجَّه (أبو زهرة) نقداً لرأى فقهاء العصر الوسيط بعدم جواز  إبرام اتفاق دائم باعتباره اتفاقاً يشير  إلى حالة من ضعف المسلمين, تلك الحالة التى نفاها كلام (الله) وفقاً لما ورد فى الآية (139/آل عمران). لكن يتضح من كلام (أبى زهرة) أن الاتفاق الدائم لا يشير إلى ضعف, بل إنه على العكس يشير  إلى مجد الإسلام إذا ما أُبرم فى حالة من الغلبة العسكرية.

ونتطرق إلى (الزحيلى) – وهو سورى الجنسية وأحد تلاميذ (شلتوت) فى الأزهر, والذى أنهى درجة الدكتوراه عام1963 بتقدير  ممتاز  فى موضوع (أحكام الحرب فى الإسلام)، وقد سار على درب (شلتوت) و (أبى زهرة)-المصرييَّن- فى التفسير. فالجهاد - فى رأيه- وسيلة ردع لمعتدٍ غاشم، لكن لا يجب تنفيذه على أرض الواقع من خلال الوسائل الحربية. فالواقع السياسى - على ما يبدو - قد أثَّر أيضاً على (الزحيلى)، فعلى الرغم من موقفه الواقعى بشكل عام فقد أيَّد وجوب الجهاد ضد الشعوب المحتلة لإقليم إسلامى. وهكذا يقول (الزحيلى) - فى مقابلة تليفزيونية أجريت معه عام 2006- إن (الجهاد) الآن يعد نظيراً  لما نطلق عليه (حق المقاومة). ووفقاً لما ذكر كذلك, فإنه معروف فى القانون الدولى بحق الشعب المحتل فى الدفاع عن أرضه ومحاربة المحتل كما هو الحال فى فلسطين, وأفغانستان والعراق. ويذهب أيضاً إلى أن المدافع عن نفسه ليس بإرهابى, إنما الإرهابى هو المعتدى المحتل لأراضٍ إسلامية. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن (الزحيلى) قد عدَّ (إسبانيا) أرضاً محتلة مثل (فلسطين).

وفيما يلى أقف على عدد من المواقف التفسيرية الرئيسة لمفكرى التيار الواقعى عند إقدامهم على إعادة تفسير عقيدة (الجهاد) فى محاولة للربط بين الشريعة والواقع المعاصر فى مجال العلاقات الدولية.

- السلام هو الأصل فى العلاقات بين الأمم والشعوب:

شن فقهاء الإسلام المحسوبون على المذهب (الواقعى) حملة شعواء على فقهاء القرون الأولى من الإسلام الذين أقروا بأن الحرب هى الأصل فى العلاقة بين المسلمين وغير هم، وبناء عليه تعتبر الأراضى غير الإسلامية داراً للحرب. ويذهب (محمد أبو زهرة) إلى أن الإسلام يعتبر  الجنس البشرى أمة واحدة وأن تشعبهم لشعوب وقبائل لم يكن الهدف منه إلا ليتعارفوا فيما بينهم. وقد تصدى الإسلام للعصبية القبلية والقومية وسعى لنشر الإخاء بين أبناء الجنس البشرى. وقد ذهب (أبو زهرة) - استناداً إلى الاتفاق المبرم بين النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم وبين اليهود فى المدينة – إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد مال إلى إرساء مبدأ التعاون القائم على المساواة والصداقة فى العلاقات بين الكيانات السياسية، ذلك المبدأ الجوهرى فى الارتقاء بالقيم الإنسانية.

ووفقاً لما جاء فى الآية (61) من سورة الأنفال فإن المسلمين ملزمون بالجنوح إلى السلام حال جنوح العدو له. ويرى أن الإسلام يعتبر  الحرب غوايةً من الشيطان، وأنه لا يسمح بتدخل المسلمين فى شئون الدول الأخرى إلا للدفاع عن الحريات العامة وبخاصة ضد الحروب الدينية. وعلاوة على ذلك, ووفقاً لما ذكر, فالإسلام يحترم حق كل دولة فى الوجود وحقها فى السيادة والدفاع عن أرضها وسيادتها. ولقد كان تدخل الدول الإسلامية فى شئون (الدول غير المتقدمة) يهدف فقط إلى الإرشاد والتوجيه لا إلى السيطرة والاحتلال. وقد استعرض (أبو زهرة) السيرة النبوية ذاهباً إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم قد حارب فقط عندما تعرض لاعتداء من قبل كفار (مكة) أو عندما لاحق ملوك العدو  من دخل الإسلام فى الأقاليم الواقعة تحت سيطرتهم وسلبهم حرية العقيدة منهم. وها هو (الزحيلى) يذهب إلى أن الأصل فى العلاقة بين المسلمين والكفار هو السلام, ولا يجوز  قتال أمة غير مسلمة لم تعتدِ على الإسلام, ولا تَحُول دون نشر  رسالة الإسلام أو حرية الدين الإسلامى.

وثمة طرح مهم يقدمه البروفيسور الأردنى الكبير ذو الأصل الفلسطينى (عبدالعزيز الخياط) والذى كان وزيراً فى الحكومة الأردنية لعدة مرات، وشغل وظائف رفيعة فى المنظومة الأكاديمية الأردنية. ويذهب (الخياط) إلى أنه لا علاقة بين مسمى (دار الحرب) وبين وضعه العسكرى والسياسى من منظور الشريعة. فدار الحرب وفقاً لتفسيره هى فى العموم كل منطقة لا تطبق فيها أحكام الإسلام. ولا يعنى الأمر وجوب شن حرب متواصلة ضدها. وقد بنى رأيه هذا على حقيقة إبرام المسلمين لاتفاقيات مع جماعات مختلفة تنتمى لـ(دار الحرب).  ويكتب (الخياط) قائلاً إن أساس العلاقة بين الإسلام وغير المسلمين هو نشر الإسلام بالدعوة السلمية, شريطة ألا يضع غير المسلمين العراقيل أمام إمكانية القيام بالدعوة للدين الإسلامى. وقد أسس رأيه هذا على حديث (النبى)صلى الله عليه وسلم الذى يأمر  فيه رسله بدعوة الكفار إلى الدخول فى الإسلام قبل قتالهم. ووفقاً لما ذكر، فالإسلام  دين يقيم علاقات صداقة مع كل دولة لا تقاتل المسلمين ولا تمنع نشر الدين بالطرق السلمية. وتوافقاً مع الواقع المعيش كتب (الخياط) قائلاً: إن احترام الاتفاقيات كمبدأ فى القانون الدولى قد أقره القرآن الكريم بالفعل, مضيفاً أن إقامة علاقات صداقة (موالاة) بين دولة إسلامية ودولة غير إسلامية جائزة طالما كان فى ذلك منفعة للمسلمين، لكنه يناقض نفسه فى قوله إن هدف الجهاد هو توحيد أبناء الجنس البشرى فى أمة واحدة, وبذلك يتحقق السلام العالمى.

ويذهب مفكر آخر  وهو (صبحى محمصانى) أن آيات السلام فى القرآن الكريم تقف مستقلة لا تنسخها آيات الحرب، حيث يذهب- مثل أبى زهرة- إلى أن الفقهاء الذين أفتوا بغير ذلك قد تأثروا بالواقع الحربى الذى عاشوا فيه, الأمر الذى أدى بهم إلى هذا المنحى فى التفسير، حيث ذكر  أن الإسلام يقوم على السلام بوصفه ركيزة أساسية، وأن أحكام الحرب تعد فقط وضعاً استثنائياً، وأن السلام والإسلام مشتقان من نفس الجذر. كذلك ذكر أن كلمة (السلام) وردت فى القرآن الكريم فى أكثر من مائة آية فى مقابل كلمة (الحرب) التى وردت فيه ست مرات فقط. كما يضيف أن السلام هو واحد من أسماء (الله)، وجزء من تحية السلام عند المسلمين. ويشير إلى أن جنة عدن تسمى بـ(دار السلام). ووفقاً لما ذكر، فإن التشريع الإسلامى يشجب حالة الحرب ويعتبرها حالة طارئة للدفاع عن حرية الدين ودفع العدوان والظلم والدفاع عن النظام الاجتماعي.

ويذهب (محمد عفيفى) إلى أن الإفتاء يجب أن يستند إلى آيات السلام فى القرآن الكريم، وألا يؤخذ بالفتاوى "الوقتية" وليدة اللحظة والظروف (الأحكام الوقتية)، والتى - نظراً لذلك - تكون عرضة للتغير، إذ إن رجال الفتوى -كما هو متوقع- قد أصدروا فتاواهم المتعلقة بحالة الحرب مع الكفار بما يتفق مع حاجة ملوكهم وخلفائهم وبما يتواءم مع ظروف عصرهم. ويضيف أن كتب السيرة النبوية تقدم شواهد  لاتفاقيات تم إبرامها مع الكفار ولا غرابة فى أمرها،  فالإسلام هو دين السلام ولا يمكن تحقيق سلام دون اتفاقيات. ويذهب إلى أن (دار الحرب) هو مصطلح ينطبق فقط على البلد الذى يبادر بشن عدوان على المسلمين، أو البلد الذى يُتَخَوَّفُ من قيامه بالإعداد للاعتداء على المسلمين. كما يذهب إلى أن الإسلام لم يُنشر بحد السيف. فقد ذكر  أن الإسلام كان أول من غرس فى العالم براعم التعايش السلمى، ولا يمانع فى إقامة علاقات إنسانية بين أبناء الأديان المختلفة عن طريق السلام وحرية العقيدة، ويستشهد (عفيفى) بالآية (7) من سورة (التوية)(انظر سابقاً) ليثبت جواز إبرام اتفاقيات مع دول غير إسلامية. لكنه - وفقاً لما سنرى لاحقاً-  يعبر  فى نفس الوقت عن آراء متشددة.

وينظر مفكر آخر وهو (عبدالخالق النواوى) المحاضر فى القانون العام والشريعة نظرة أكثر بعداً عن ذلك ذاهباً إلى أنه يجب احترام كل حقوق الدول غير الإسلامية ورعاياها. وفضلاً عن ذلك، لا يجوز لدولة إسلامية أن تسمح بتنظيم جماعة مسلحة على أرضها كى تستهدف دولة أخرى، كما يجب التعامل مع الدول الأخرى وفقاً لمنهجها فى التعامل مع المسلمين (المعاملة بالمثل). ويضيف أن مفهوم (دار الحرب) لا يعنى وجوب إدارة حرب متواصلة ضد أهلها, بل وجوب كون المسلمين فى حالة تأهب دائم إزائهم.

ويعرض الجنرال السعودى عقيد ركن (محمد مهنى العلى) موقفاً مهماً، لكنه لا يخلو هو الآخر من التناقض، حيث يؤكد (العلى) على كلام المفكرين سالفى الذكر، والذى يقضى  بأن السلام هو الأصل فى العلاقات فى الإسلام، وأن الحرب هى استثناء لأجل الضرورة، وذلك لتطبيق حكم الله فى الأرض وتحرير البشر من عبادة إله غير  الله. ومع ذلك، يذهب إلى وجوب احترام الاتفاقيات مع الدول والامتناع عن انتهاكها، إذ إن انتهاكها يعد خيانة كبرى من منظور الشريعة الإسلامية ، فكل أمة لا تعوق دعاة الإسلام وتمنحهم حرية الدين يحرم قتالها ووقف العلاقات السلمية معها لوجود علاقات (أمان) بينها وبين الأمة المسلمة. (وهو نظام من حرية الحركة والأمن منحه الحكام المسلمون للتجار والدبلوماسيين الأجانب).

- الجهاد كحرب دفاعية:

يتضح من خلال ما سبق أن الجهاد - وفقاً للرأى الأول والخاص بالمفسرين المسلمين أنصار التيار الواقعى - ليس حرباً مقدسة لأجل إدخال الكفار فى الإسلام، لكنه حرب دفاعية فحسب. فهم لا ينكرون وجود الجهاد كحرب على الكفار، لكنهم يذهبون إلى أنه حرب الهدف منها صد العدوان فقط. وتُستمد آراؤهم من تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف، فمثلاً يستشهد (أبو زهرة) بحديث فُسر من خلاله الجهاد بأنه أمر غير واجب، كما فسر  الآية (191) من سورة (البقرة) وهى: (وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَیۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَیۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَـٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِیهِۖ فَإِن قَـٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَلِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ) تفسيراً حديثاً، وذلك بقوله "فقط إذا قاتلوكم". ويشير  (أبو زهرة) إلى الخيارات الثلاثة التى عرضها الإسلام على الكفار وهى:

1.       اتفاق حماية تحت إمرة الإسلام.

2.       الدخول فى الإسلام.

3.       فى حال رفضهم للخيارين الأولين يبقى خيار الحرب، ولا يُبادَر  به بل يكون نتيجة لرد الفعل العدوانى من قبل الكفار.

ويضيف (أبو زهرة)  أن (النبى)صلى الله عليه وسلم ذاته كان يتحلى بالصبر مع الكفار، وكان يتوجه إليهم بدايةً بالموعظة الحسنة، واعتاد بعد دعوته الأولى منحهم مهلة للتفكير، فإذا رد الكفار بالاعتداء على المسلمين لم يكن هناك مفر  من قتالهم. ويذكر أنه لمن الحماقة بمكان أن ينتظر المسلمون حتى يهاجمهم العدو، ولذلك كانوا مضطرين إلى البدء بحرب وقائية. ويزودنا موقف (أبى زهرة) بتفسير  تاريخى حديث وغير تقليدى يعرض حروب النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم كحروب اضطرارية فحسب أو حروب دفاعية، لأن أطراف النزاع وخاصة (الفرس والروم) كانوا هم من بادروا بالحرب أو الإعداد لها.

ويفسر (الزحيلى)(الجهاد) على أنه خطوات قتالية تهدف فقط إلى ردع الأعداء بالقوة عن البدء بالحرب. ويذهب إلى أن آيات (الجهاد) فى القرآن الكريم والحديث الشريف- والتى تثير حمية المؤمنين على الجهاد- تهدف إلى أمر واحد وهو تحفيز المسلمين على الاستعداد الدائم لصد العدوان، إذ إنه لا يُعقل أن يتعرض المسلمون للعداء والكراهية من قبل خصومهم ولا يكون بأيديهم قوة الردع لصدهم. فوفقاً لما ذكر، فالجهاد كفعل قتالى جائز  فقط فى حالة الضرورة التى تتمثل فى مبادرة العدو بالحرب ومحاولته طرد المسلمين من أرضهم. ويؤكد عدم جواز  قتال المسلمين للكفار لمجرد كفرهم بالإسلام، ولكن لصد عدوانهم فقط. ويذهب (الزحيلى) إلى أنه لو كان الكفر هو السبب فى الحرب ما وافق النبى صلى الله عليه وسلمعلى التفاوض مع (بنى قريظة) ، ولَنَصَّ القرآن الكريم - بشكل مفصل- على الأمر بالإكراه فى الدين على عكس ما نُصَّ عليه فى الآية (256) من سورة البقرة : (لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِۖ قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَیِّۚ فَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ)،  وما وافق المسلمون على قبول (الجزية) من غير المسلمين كاتفاق حماية، بل كانوا قاتلوهم. وهكذا ووفقاً لما ذكر، فإن الشريعة لا تجيز استغلال الشعوب الأخرى لا بالاحتلال ولا عن طريق "الاستعمار الحديث" أى الضغوط الدبلوماسية أو الاقتصادية.

وقد أورد (الزحيلى) - مثل أبى زهرة- نماذج تاريخية من حروب النبىصلى الله عليه وسلم والخلفاء الأُول لتأييد تفسيره، فيذهب إلى أن الحروب السبع والعشرين التى خاضها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم كانت تهدف إلى صد الخطر قبل وقوعه، فمثلاً نشبت الحرب مع يهود (بنى قينقاع) فى المدينة لخرقهم الاتفاق المبرم مع (النبى)صلى الله عليه وسلم. وقد كان فتح مكة نتيجة لخرق قبيلة قريش الاتفاق  الذى أبرموه مع (النبى)صلى الله عليه وسلم فى (الحديبية).

فالحرب التي شُنَّت ضد تحالف القبائل العربية (الأحزاب) كانت حرباً دفاعية عن مدينة النبى (المدينة)، كما كانت معركة "بدر" الكبرى - التى هَزم فيها (النبى)صلى الله عليه وسلم قبيلةَ قريش فى عام 623م فى معركة بطولية تهدف إلى كسر حصار الأعداء لمعسكر المسلمين. ويتم عرض الحروب ضد الروم والفرس كذلك على أنها حروب دفاعية، حيث يذكر  (الزحيلى) أن ملك الفرس قد أمر بمنح مكافأة لمن يأتيه برأس (النبى) صلى الله عليه وسلم. وها هو قيصر الروم قد قتل من دخلوا فى الإسلام من بلاد الشام، فاضطُر المسلمون إلى الخروج للدفاع عنهم. ولم تكن تلك الحالات هى الوحيدة التى حظيت برؤية  تاريخية حديثة غير تقليدية داخل مؤلفات (الزحيلى)، إذ يضيف أن هدف الفتوحات الإسلامية المتأخرة فى مصر وإفريقيا هو إقصاء الحكام المحليين الذين تحالفوا مع البيزنطيين وظلموا شعوب أفريقيا، ولذلك لم يقاتل الفاتحون العرب لمصر سكان مصر الأصليين مثل الأقباط الذين سعدوا جراء انفصالهم عن خصومهم البيزنطيين. ولا يتواءم عرض الوجه الآخر للجهاد والمتمثل فى نشر الإسلام فى دول أخرى أو إنقاذ الشعوب المقهورة على أيدى خصوم الإسلام مع مبادئ العلاقات الدولية المعاصرة.

وهناك مفكرون مسلمون يبررون مفهوم الجهاد كحرب دفاعية من خلال رؤى استراتيجية، فيذهب (ظافر القاسمى) - على سبيل المثال - إلى أن البلد  الذى يتخذ من الحرب ركيزةً لحياته العامة لن يكتب له البقاء لأن مواطنيه سينشغلون بالحرب والدمار بدلاً من انشغالهم بالإنتاج.

وثمة نظرة أصيلة أخرى للبروفيسور (محمد سعيد البوطى) من جامعة (دمشق) تستبدل فيها كلمة (حرب) المعبرة عن (الجهاد) بكلمة (حِرابة)، بمقتضاها تكون حرب المسلمين ضد عدو  يتأهب لمحاربتهم حرباً وقائية، لكن كلام (البوطى)  لا يخلو هو الآخر من التناقض، حيث ذهب فى إجابة له عن سؤال بشأن (إسبانيا) إلى أنه يجب إعادتها إلى حضن الإسلام، أى إعادة فتحها لأنها لا تزال محسوبة على دار الإسلام.

وهناك تناقض آخر نجده أيضاً عند (محمد خير هيكل) الذى ألف كتاباً شاملاً عن الجهاد. فمن جهة، يذهب (هيكل) إلى أن الجهاد حرب دفاعية، لكنه من جهة أخرى، كتب أن الجهاد يعنى التدخل فى الشئون الداخلية للدول غير الإسلامية بهدف إنسانى كما يتدخل الوالدان فى شئون أبنائهم لفرض الحق والعدل وغرس المحبة والرحمة فيما بينهم.

- "الدعوة" – نشر  الإسلام لا يستوجب الحرب:

ثمة توجه آخر يصور الجهاد على أنه كان وسيلة بقاء حيوية فى الماضى، لكنه الآن قد عفا عليه الزمن، حيث يذهب عدد من مفكرى الإسلام ممن يطالبون بالموائمة بين الشريعة الإسلامية والواقع المعاصر  إلى أنه فى العصر  الحديث ثمة وسائل أكثر نفعاً فى مجال (الدعوة)، وبناءاً عليه فقد تلاشى من العالم دور الجهاد بمفهومه القتالى، كما ذهبوا  إلى أنه - على العكس من فترة العصر الوسيط- يمكن القيام بالدعوة الآن كدعاية إسلامية عن طريق وسائل الاتصالات العصرية التى تصل إلى شتى بقاع الأرض دون الحاجة إلى الحرب. ويستشهد (سعيد المهيرى) - على سبيل المثال- بالواقع الحديث للأقليات المسلمة فى الدول الغربية كى يُدَعِّم هذه الرؤية، حيث يكتب قائلاً: "إن الدول التى تتيح  لمواطنيها من المسلمين الدعوة للإسلام بالطرق السلمية لا تُعد عدواً، ويمكن إبرام اتفاقيات سلام معها للمضى قدماً فى الدعوة. وتقوم رؤيته على أن العلاقات الدبلوماسية من شأنها أن تقنع مواطنى الدولة غير المسلمة بالدخول فى الإسلام، بل يقترح تأهيل السفراء المسلمين من خلال دورات  فى الدعوة والحرص على بألا يتبنى السفراء المسلمون فى الدول غير الإسلامية - لاقدر الله- ثقافة الدولة الكافرة. ويشير (المهيرى) إلى أن أبناء الأقليات المسلمة التى تعيش الآن فى دول الكفار هم أحرار بالفعل، وأنه ليس بإمكانهم المحافظة على دينهم فحسب، بل بإمكانهم نشر الدين بالتى هي أحسن. ويذهب إلى أنه من الواجب على الدولة المسلمة استغلال علاقات السلام بينها وبين الدول غير  الإسلامية لصالح الأقليات المسلمة التى تعيش فيها، ومنع انصهارها فى الثقافة الكافرة.

وذهب (الزحيلى) إلى أن نشر رسالة الإسلام قد بلغت مداها، وأن الإسلام قد وصل بالفعل إلى الإنسانية جمعاء. ولأجل هذا السبب فإن المسلمين لا يمانعون فى وجود أمم أو دول تتخذ موقفاً محايداً فى علاقتها بالإسلام، أو تقيم مع المسلمين اتفاقيات سلام وصداقة أو عدم اعتداء. ولهذه الدول الحق فى المحافظة على أنظمتها التشريعية وفقاً لما ترى لأن القرآن الكريم كما ورد فى الآية (1) من سورة (الفرقان) يعترف بوجود غير مسلمين.

ويمكن أن نجد مثل هذا الموقف  فى كلام الأردنى (عبدالعزيز الخياط) الذي يذهب إلى أن مفهوم الجهاد هو الدعوة باللسان، لكنه يؤكد أنه إذا ما منعت الدولة الكافرة مواطنيها من الإطلاع على الإسلام وحاولت تشويه صورته والنيل من الدعاة أو منعهم من الوصول إلى المواطنين، عندئذٍ يكون الجهاد فرضاً. ويذهب كاتب آخر وهو  (إحسان الهندى) إلى أنه من المتوقع أن يكتشف سكان الدول غير الإسلامية- ممن بينهم وبين المسلمين اتفاقيات- عظمة الإسلام ومزاياه، وذلك من خلال اتصالهم بالمسلمين فيدخلون فيه دون حرب، وهكذا تتحول (دار العهد) (أى المنطقة التى توجد اتفاقيات بين سكانها وبين المسلمين) تدريجياً إلى (دار الإسلام). ويذهب (الهندى) - دون سند تاريخى- إلى أنه لم تكن هناك حاجة إلى تجديد اتفاق الهدنة لأكثر من عشر سنوات إلا  فى أوقات نادرة فقط، إذ لم تكن هناك ضرورة لذلك - بصفة عامة- نظراً لدخول الكفار فى الإسلام برغبة منهم بعد تعرفهم على مزايا هذا الدين.

وقد كان تقديس الغاية وإيثارها على الوسيلة (الجهاد) قاسماً مشتركاً للتقريب بين موقف التيار الواقعى وموقف التيار السلفى، حيث حاول باحثون من دول إسلامية مختلفة ما بين عامى 1987-1995 الموائمة بين العقيدة الإسلامية الكلاسيكية وبين واقع العلاقات الدولية المعاصرة. ويميز فريق من الباحثين برئاسة البروفيسور  (نادية محمود مصطفى) من الإمارات العربية المتحدة بين ثلاثة تيارات تفسيرية فى الإسلام هى: التيار السلفى والتيار الإصلاحى والتيار الواقعى. أما التيار الإصلاحى فقد تعرض للنقد انطلاقاً من حقيقة أن تفسيره يتعارض مع الغاية العظمى للإسلام وهى (الدعوة العالمية)، وانطلاقاً من حقيقة اكتفاء مفكرى هذا التيار بالحدود الجغرافية الإسلامية فى أقاليمه القائمة. وفى المقابل يستخدم الفريق البحثى – سالف الذكر - مفكرى التيار السلفى كركيزة فى تأسيس التفسير (الواقعى)، فتذهب الباحثة " نادية مصطفى" إلى أنه من الممكن - ووفقاً لرأى (سيد قطب)  أحد رجال الإخوان المسلمين فى مصر  والذى أُعدم شنقاً عام 1965 - تفعيل ما ورد  فى (آية السيف) رقم(5) من سورة (التوبة) فقط بعد محاولات  الدعوة بالموعظة الحسنة، أما فى حالة رفض الطرف غير المسلم للإسلام، فعندئذ يمكن إعلان حالة الحرب.  وتتبنى الباحثة هذا  التفسير   لكنها تضفى عليه رؤية جديدة تستأصل الدلالة الأولى للآية، حيث تذهب إلى أن مسيرة الدعوة طويلة الأمد ولا نهاية لها بالفعل. والإسلام يرفض فكرة موت المسيح، وبناء عليه فالعالم الإسلامى فى حالة من الترقب المستمر، ويجب موائمة التشريع الإسلامى فى مجال العلاقات مع غير المسلمين مع رأيها ورأى طاقم الباحثين الذى يعمل معها ومع النظام العالمى المتغير. فاليوم يُفرَض على الدولة المسلمة احترام الاتفاقيات الموقِّعة عليها كى يتاح لها وضع مناسب لنشر الدعوة وتدعيم الأمن والاستقرار وقـت السلم، ولا يجوز اللجوء إلى الجهاد القتالى إلا بعد أن تفشل كل وسائل الدعوة. غير أن دلالة هذا الكلام هو أن وسائل الدعوة التى يمكن العمل بها فى واقعنا المعاصر لا نهاية لها. وبناءاً على ذلك، فالجهاد كحرب هو  أمر نظرى لا وجود له على أرض الواقع.

من خلال هذه التجربة يمكن التوصل إلى أن فريق البحث برئاسة الباحثة (نادية مصطفى) لم يستطع التنصل من النصوص الكلاسيكية الخاصة بالجهاد، ولذلك فإنه يواءم بين التشريع الإسلامى والواقع المعيش من خلال الفصل بين الغاية والوسيلة. وهنا يتبنى المفسرون الواقعيون رؤيتين مهمتين: تتمثل الأولى فى أن الغاية العظمى للإسلام ليست إدخال الكفار فى الإسلام، لكنها القدرة على القيام بالدعوة فى أوساطهم. وتتمثل الرؤية الثانية فى أن وسيلة تحقيق الهدف -الجهاد- لم تعد ذات أهمية فى فترة لا تتوقف فيها الدعوة، ويمكن تحقيقها بخطوات مختلفة وبلا عوائق، وهكذا تتم المحافظة على السلام وفقاً للفكر الإسلامى، فالجهاد القتالى يبقى مشروعاً على المستوى النظرى لا على المستوى العملى.

ويقع مفكر آخر - وهو (سعيد المهيرى)- فى تناقض ذاتى. فمن جانب، يؤيد إبرام اتفاقيات حسن جوار مع دول غير إسلامية كما فعل (النبى)صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، ومن جانب آخر  يذهب إلى عدم جواز  إبرام  اتفاقيات تعترف بالحدود السياسية والجغرافية، ذلك أن الإسلام يرى أن الدعوه إليه - من منظوره - هى دعوة عالمية لا تعترف بالحدود. وتجدر الإشارة إلى أن (المهيرى) قد أورد الاتفاقيات التى عقدها المماليك مع الصليبيين كنموذج إيجابى، لكنه لا ينتقد وجود بنود بها تضفى شرعية للمسيحية كما رأينا سابقاً.

- العالم غير الإسلامى يعيش فى اتفاق مع العالم الإسلامى (دار العهد):

إن التقسيم الثنائي للعالم إلى (دار الإسلام) و (دار الحرب) كان بمثابة حجر الزاوية فى عقيدة الجهاد الكلاسيكية، غير أن هذا التقسيم لم تعد له فاعلية فى الوقت الحالى، وكان هذا التحول نتيجة لوجود أقليات مسلمة فى دول غير إسلامية. فوجودها هناك يؤدى إلى تحول الدولة غير  الإسلامية إلى جزء من (دار الدعوة)، أى المكان الذى تُجرى فيه دعوة غير  المسلمين لاعتناق الدين الإسلامى، وهى المكان الذى تقوم الأقلية التى تحيا به بتوسيع نطاق الإسلام كبديل لدار الحرب،  أو  تلك المنطقة التى تُمنح فيها الأقلية المسلمة حرية الدين بشكل مطلق. ولهذا السبب فإن مفهوم (دار العهد) -الذى أطلقه (الشافعى) بعد قرنين من ظهور الإسلام- يُستخدم الآن من قبل فقهاء الدين الإسلامى المطالبين بالموائمة بين الإسلام وبين متطلبات العلاقات الدولية المعاصرة.

ولتحقيق ذلك يستند مفسرو  التيار الواقعى فى الوقت الراهن إلى سوابق الاتفاقيات التى أبرمها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه مع جماعات مختلفة من الأمم الكافرة، حيث يقدم الباكستانى (محمد حميد الله) إسهاماً مهماً من خلال استناده إلى تلك السوابق التاريخية، فقد نشر كتاباً عام 1955 جمع فيه النصوص الأصلية للاتفاقيات المبرمة فى فترة النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أما سوابق الاتفاقيات التى ذكرها المفسرون من أنصار التيار الواقعى فهى: اتفاق  النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران الذى سمح لهم فيه بالصلاة فى مسجده، وكان هذا الاتفاق يعبر عن حالة من بعد النظر الحقيقى، والاتفاق الذى أبرمه القائد (أبو عبيدة بن الجراح) مع سكان حمص بعد أن أرسله الخليفة  (عمر بن الخطاب) لفتح الشام، ذلك الاتفاق الذى منحهم حق الحفاظ على عقيدتهم الدينية وبسط سيطرتهم على أرضهم نظير دفع "الجزية" للمسلمين، وفى مقابل ذلك تعهد لهم المسلمون بمساندتهم حال تعرضهم لعدوان من قبل الروم. وبعد قيامهم بالتخابر  لصالح المسلمين أمر  (أبو عبيدة) بأن يرد إليهم ما دفعوه. وكذلك الاتفاق الذى أبرمه الخليفة الأموى (معاوية بن أبى سفيان) مع الأرمن، والذى بمقتضاه يحق لهم بسط سيطرتهم الكاملة على أرضهم. وكذلك الاتفاق الذى أبرمه (معاوية) عام 657 م  مع المملكة المسيحية فى النوبة (جنوب مصر)، والذى بمقتضاه خضعت (النوبة) إلى  الحماية الإسلامية فى مقابل قبولها بدفع الجزية.

ويرى (وهبه الزحيلى) أن مفهوم (دار العهد) الذى أطلقه (الشافعى) هو الذى أرسى أساس العلاقات الدولية بمعناها المعاصر، إذ إن وثيقة الأمم المتحدة فى حاضرنا المعاصر - والتى وقعت عليها معظم دول العالم - قد حولت الدول الكافرة إلى دول ذات اتفاقيات مع الدول الإسلامية. من هنا  فكل دولة إسلامية تقيم - بالفعل - علاقات دبلوماسية مع  دول غير  إسلامية لا تناصبها العداء فهى معها فى حالة اتفاق دائم، أى هى - بالفعل- فى حالة سلام بمفهومه المعاصر. ويتبنى ذات الرأى كذلك (محمد أبو زهرة) المصرى و (عبد العزيز الخياط) الأردنى، حيث يقول (الخياط)  إن (دار الحرب) اليوم هى ذاتها (دار العهد). ويقول (محمد أبو زهرة) إن العالم المعاصر منظم فى إطار منظمة الأمم المتحدة التى التزم أعضاؤها بقواعدها وقوانينها، فحكم الإسلام فى هذا الوضع هو تنفيذ الاتفاقيات والالتزامات التى قبلت بها الدول الإسلامية وفقاً لمبدأ احترام المواثيق المحدد فى القرآن الكريم. وبناء على ذلك، فغير المسلمين المنضمين للأمم المتحدة لا ينتمون إلى (دار الحرب) بل إلى (دار العهد).

ويشير  الدكتور (يوسف القرضاوى) إلى عدم الموضوعية التى يرددها البعض فيما يتعلق بـ  (دار الحرب)، إذ يقول فى أحد اللقاءات التليفزيونية مايلى:

"ولو أننا نُقَسِّمُ العالم اليوم، عندئذٍ سنقول إن (دار الإسلام) تشمل كل الدول الإسلامية وتشمل (دار العهد) سائر بلدان العالم ممن بينها وبين العالم الإسلامي مواثيق، والتي ترتبط بالدول الإسلامية من خلال علاقات سياسية وتبادل للممثلين الدبلوماسيين باستثناء أولئك الذين أعلنوا الحرب على المسلمين مثل إسرائيل والصرب اليوغوسلافيين.

وثمة  نموذج آخر يمثله كلام الشيخ (فيصل المولوى) أمين حركة الجماعة الإسلامية فى لبنان، والذى أصدر فتوى  فى أعقاب استهداف القاعدة لنيويورك وواشنطن فى الحادى عشر من سبتمبر  2001 أقر فيها  بأن الولايات المتحدة ليست عدواً  لدول إسلامية، وبناءاً على ذلك  فاستهدافها يعد انحرافاً شديداً عن الشريعة. ويوضح (المولوى) أن أية دولة وقَّعت مع الدول الإسلامية على وثيقة الأمم المتحدة فهى فى حالة اتفاق سلام وأمن (دار عهد) مع الدول الإسلامية، ومن ثم فالولايات المتحدة فى هذا الوضع لا تعد عدواً. فضلاً عن ذلك، فالآن تعيش أقليات مسلمة فى دول غير  إسلامية، ومن ثم فإعلان (الجهاد) ضد دولة مثل الولايات المتحدة على سبيل المثال يضع مصير  المسلمين المقيمين فيها تحت الخطر. وتشذ عن تلك القاعدة - على حد قوله -  إسرائيل، فعلى الرغم من توقيعها على وثيقة الأمم المتحدة  فإنها قد اغتصبت أرضاً إسلامية وطردت مسلمين من أرضهم، لذلك  فمناقشة أمرها يحتاج إلى دراسة خاصة. وفيما يتعلق بالشأن الإسرائيلى، يتردد - بشكل عام - فى الفتاوى المطروحة فى السنوات الأخيرة أنها لاتزال عدواً محتلاً لأرض إسلامية مقدسة، وبناءاً عليه وجب الجهاد ضدها، وهو  ما أفتى به الدكتور (يوسف القرضاوى) المُسْتَشْهَدُ بكلامه آنفاً. وسوف نناقش فيما بعد -وباستفاضة- رؤى مفكرى التيار المتشدد.

- جواز التوقيع على اتفاقيات سلام دائم:

يذهب المفكرون المسلمون ممن يعرضون السلام كأصل فى العلاقة بين المسلمين وغير هم إلى جواز  إبرام اتفاقيات دائمة غير محددة المدة الزمنية مع الكفار، وهى اتفاقيات سلام شامل. وهذا ما أقره كل من  (أبى زهرة)  و  (الزحيلى) مستندين إلى الآية (90) من سورة (النساء) والتى لم تنسخها آيات الحرب.

ويذهب (عبدالعزيز الخياط) إلى جواز  إبرام اتفاقيات سلام دائم استناداً إلى ست سوابق من اتفاقيات السلام التى أبرمها (النبى)صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة ومع سكان أيلة وجرباء وأذرح ومقنا* ونجران. كما يذهب (سعيد المهيرى) كذلك إلى أن المنفعة تبرر  أحياناً إبرام اتفاق لفترة طويلة.

- تنفيذ اتفاقيات السلام المبرمة فرض مقدس:

ينبغى على المفكرين المسلمين ممن يطالبون بالموائمة بين الشريعة ومعايير العلاقات الدولية المعاصرة التصدى لتفسير  المفسرين الكلاسيكيين مثل (ابن القيم الجوزيه) و (ابن تيميه) من المذهب الحنبلى و (محمد الشيبانى)  و  (أبى يوسف ) من المذهب الحنفى الذين يذهبون إلى جواز عدم تقييد الاتفاقية بمدة زمنية محددة، لكن يمكن نقضها فى أية لحظة يرى فيها الحاكم المسلم أن الظروف التى سوَّغت إبرامها قد تغيرت.

وعلى الرغم من حقيقة أن القرآن الكريم يدعو  فى الآية (7) من سورة التوبة إلى احترام الاتفاقيات، بيد أننا نجد - وفقاً لما ورد ببعض روايات الحديث الشريف -  فى توجيهات (النبى)صلى الله عليه وسلم لقادة الجيش تفاوتاً فى درجة احترام الاتفاقيات، فمثلاً هناك رواية صحيحة جاء بها أن (النبى)صلى الله عليه وسلم أوصى بعدم القسم باسم الله لأنه من السهولة بمكان نقض العهد.

ويذهب أتباع التيار الواقعى إلى أن غالبية فقهاء الإسلام فى القرون الأولى من الإسلام قد ذهبوا إلى عدم جواز خرق الاتفاق المبرم مع الكفار  إلا فى حالة قيام العدو بأفعال تشى بنيته فى خرقه مثل الاستعداد للحرب على سبيـل المثـال. ويستوجب القـرآن الكـريم - كما يرى (أبو زهرة)- احترام الاتفاقيات بغض النظر عن الوضع العسكرى ووجوب الجنوح إلى السلام فى أى موضع كان. ويشير إلى أن غالبية الفقهاء قد أوجبوا احترام الاتفاقيات دون النظر إلى المنفعة، كما أشاروا كذلك إلى أن فى ذلك الأمر منفعة تفوق المنفعة الوقتية. فعلى حد قوله، لا يجوز خرق الاتفاقيات إلا إذا خرقها الطرف الآخر. ووفقاً لما ذكر، فإن فقهاء الإسلام الذين أقروا بوجوب خرق الاتفاق طالما أنه لا يخدم المسلمين لم يفعلوا ذلك استناداً إلى قاعدة قرآنية بل فعلوه  انطلاقاً من ظروف عصرهم، وذلك عندما بدأت جماعات  كانت قد أبرمت اتفاقيات مع المسلمين  فى خرق اتفاقياتها. وبناءاً عليه، لم يكن فى صالح الإسلام الاستمرار فى احترام الاتفاق حال الشك فى تنفيذه من قبل العدو.

ويورد (الزحيلى) قائمة بآيات القرآن الكريم التى تقدس مبدأ احترام الاتفاقيات، وكذلك الحديث الشريف القائل "المسلمون على شروطهم". ويضيف (الزحيلى) أنه بعد إبرام اتفاق (صلح الحديبية) بين (النبى)صلى الله عليه وسلم وأهل مكة مُورست ضغوط على (النبى)صلى الله عليه وسلم لخرق الاتفاق واستقبال بعض الفارين  من معسكر الكفار  ممن أرادوا الدخول  فى الإسلام  (أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، أبوه مَنْ قام بكتابة الاتفاق من جانب أهل مكة، ورجل آخر اسمه أبو بصير) إلا أنه رفض قبولهم. ويُقر  مفكرون آخرون أن احترام الاتفاقيات مبدأ مقدس فى الإسلام ومَنْ لا يحترمه فهو  آثمٌ.

- جواز إبرام اتفاقيات سلام دائم تخوفاً من هزيمة عسكرية أو بعدها:

إن أحد مبررات اتفاقيات السلام فى العصر الحديث هو التخوف من هزيمة عسكرية نكراء للمسلمين تؤدى إلى هلاكهم أو  فى أعقاب هزيمة فى حرب، حيث لا يكون أمام المسلمين خيار  سوى التوقيع على اتفاقية استسلام يُملِى شروطها الطرف الآخر. وثمة سابقة تاريخية – لمثل هذا الوضع- يعتمد عليها الفقهاء الكلاسيكيون، ألا وهو  الاتفاق الذى أبرمه الخليفة الأموى (معاوية بن أبى سفيان) مع قيصر الروم (قونسطنطينوس الثانى) عام 658 م ، ذلك الاتفاق الذى تم تمديده بعد ذلك على يد (عبدالملك). وثمة نموذج آخر مأخوذ من الاتفاق الذى عقده الخليفة (عبدالملك) عام 687 م  مع الروم (القيصر  قونسطنطينوس الرابع) الذين هاجموا المسلمين من الحد الشمالى، حيث أُجبر على دفع ألف دينار عن كل أسبوع مقابل هذا الاتفاق, وأن يُبقِى فى أيديهم معظم آسيا الصغرى. ويختلف الفقهاء حول جواز هذا الاتفاق من عدمه، فالفقهاء الذين أجازوا  للمسلمين إبرام اتفاقية استسلام أوضحوا أن المسلمين فى حالة الهزيمة مثلهم كمثل الأُسارى، فلا مفر من قبولهم بشروط العدو  وبخاصة دفع (الفدية). ويأخذ أنصار التيار الواقعي المعاصر بموقف الفقهاء الكلاسيكيين الذين أجازوا  للمسلمين التوقيع على اتفاقية استسلام، حيث يذهب (سعيد المهيرى) - على سبيل المثال - إلى أن الدولة الإسلامية قد مرَّت بفترات عصيبة من الوهن والحروب الأهلية اضطرتها إلى عقد اتفاقيات مع أعدائها لم تكن فى صالح الإسلام. ففى حالة الضرورة - كما ذكر  (المهيرى) - يجوز للدولة الإسلامية التوقيع على مثل هذا الاتفاق أو حتى دفع (فدية) للعدو تخوفاً من قتل العدو  لأسراها أو  استئصال شأفة المسلمين من موطنهم.

وثمة سابقة مهمة تتمثل فى المفاوضات التى أجراها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم مع قبيلة (غطفان)، والتى بمقتضاها كان النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم مستعداً لتسليم تلك القبيلة ثلث محصول تمر المدينة مقابل فك الحصار عنها والسماح لسكانها بممارسة حياتهم فى الوقت الذى كانت فيه المدينة محاصرة على أيدى (الأحزاب) الذين أغاروا عليها. لكن الأنصار - سكان المدينة- لم يقبلوا بتلك  الشروط فتراجع (النبى) صلى الله عليه وسلم عما كان ينوى فعله، وقبل انتهائه من المفاوضات مكَّنه (الله) (عز وجل) من النصر. وهناك فقهاء كلاسيكيون لم يجيزوا التوقيع على اتفاقية من مركز ضعف (دُنِيَّة) خشية انتهاك المبادىء الأصيلة، وبناء على ذلك فلا يعتبر  قاعدة شرعية. وبالإضافة إلى ذلك، يضيف (المهيرى) أن الاتفاق المبرم لضرورة ينتهى بانتهاء تلك الضرورة التى سوَّغت إبرامه.

وهناك تفاسير  أخرى، فها هو  (عباس شومان) - على سبيل المثال -  يؤكد على المنفعة العائدة على المسلمين من الاتفاق المبرم من مركز  الضعف نظراً  للمنفعة الناجمة عن تجنب خطر الحرب. وثمة مفكر آخر  وهو  (مروان القدومى) يذهب إلى أن الاتفاقيات المبرمة فى حالة الضعف جائزة ساعة الضرورة على أمل أن تؤدى إلى تقوية المسلمين فى المستقبل. ويذهب (محمد صادق عفيفى) إلى أن المسلمين ربما يواجهون أحياناً ظروفاً حرجة تجبرهم على الخضوع كأن تتعرض الدولة الإسلامية مثلاً لأزمات داخلية مثل حركات التمــرد، ففى مثل هذه الظروف تضطر الدولة الإسلامية إلى التوقيع على اتفاقيات تدفع بمقتضاها أموالاً  للدولة الكافرة حتى لا تتحين الفرصة وتُغِيرُ عليها. ويجيز بعض الفقهاء هذا الأمر فى حالة تهديد الوجود فحسب، وهو الرأى الذى يقول به (عفيفى) كذلك.

المصدر: מלחמה, שלום ויחסים בינלאומיים באסלאם בן־זמננו: פתוות בנושא שלום עם ישראל, יצחק רייטר, מכון ירושלים לחקר ישראל, תשס"ח, 2008



ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button