يمكن تحديد أربع فترات تاريخية تغير فيها التفسير الشرعى للعلاقات الدولية فى الإسلام وفقاً
للواقع السياسى، الفترة الأولى هى فترة التوسع الإسلامى التى بلغت ذروتها فى الربع
الأول من القرن التاسع. وفى تلك الفترة تمت صياغة وجهة النظر التى ترى أن الجهاد
هو حرب لنشر الإسلام فى جميع أنحاء العالم. والفترة الثانية هى فترة توقف الفتوحات
والانقسام الداخلى فى العالم الإسلامى، والتى امتدت إلى القرن الخامس عشر وذلك حتى قيام الإمبراطورية العثمانية، تلك
الفترة التى سلَّم فيها المسلمون بالأمر الواقع بشأن (الجهاد الخامل) ، أى
حرب من جهة نظرية فحسب. ذلك أن الواقع السياسى للمواثيق والاتفاقيات بين حكام
المسلمين وحكام الكيانات غير المسلمة أفرز تفسيراً حديثاً لأحكام الحرب والسلام،
وأضفى شرعية على الاتفاقيات طويلة الأمد مع غير المسلمين. أما الفترة الثالثة التى
استمرت نحو خمسمائة عام تقريباً فتنقسم إلى حقبتين، الأولى نفذ فيها العثمانيون عقيدة الجهاد بإعادتهم تجميع العالم الإسلامى
تحت سلطة مركزية واحدة ونجاحهم فى التوسع الإقليمى حتى نهاية القرن السابع عشر. أما
الحقبة الثانية فبدأت مع بداية القرن الثامن عشر وذلك فى أعقاب الهزيمة العسكرية التي مُنوا بها
على أيدى الدول المسيحية الكبرى فى أوروبا، لذا فقد اضطروا آنذاك إلى إبرام
اتفاقيات سلام. هذا بالإضافة إلى أن السلاطين فى القرن التاسع عشر قد اضطروا إلى قبول قواعد القانون الدولى الذى
تطور فى تلك الفترة، وذلك على الرغم من التعارض البيِّن بينها وبين الشريعة فى
قالبها الكلاسيكي. أما الفترة الرابعة فقد بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر
واستمرت فى القرن العشرين، وفيها تطور التفسير الحديث للشريعة فى مجال العلاقات
الدولية، حيث تمت موائمة الشريعة مع المنظومة الدولية المعاصرة أو مع حقيقة أن
العالم الإسلامى ليس بالفعل كتلة واحدة، لكنه مقسم إلى دول ذات مصالح مختلفة. فالعالم
الإسلامى يقف أمام ميزان القوى الدولى فى وضع متدهور بشكل ملحوظ، لهذا يحاول
التفسير الإسلامى المعاصر الربط بين الشريعة الإسلامية فى العصر الوسيط وبين
الواقع الدولى الحديث والقانون الدولى المعاصر، وهو الأمر الذى يشغل - فى الأساس -
علماء الشريعة ورجال الدين والأكاديميين المسلمين.
وقد قبلت الأنظمة فى الدول الإسلامية - بما
فيها الدول التى أعلنت عن اتخاذها من الشريعة مصدراً رئيساً للتشريع مثل السعودية
وإيران - منظومة القانون الدولى، كما قبلت كذلك فكرة القومية الإقليمية، على الرغم
من أن هاتين الأيدولوجيتين بعيدتان عن مبادىء الإسلام الكلاسيكى. ومن الواضح أن ما
يقوم به علماء الشريعة - ممن يجدون حلولاً شرعية للوضع الراهن - يخدم السلطان فى
الدول الإسلامية ويضفى شرعية على الوضع السياسى الراهن.
ونبدأ بوصف الواقع الذي حفَّز على عملية
الموائمة بين الشريعة الإسلامية والأوضاع السياسية المتغيرة.
أ- التطبيق - الاتفاقيات التى عُقدت فى الأساس
كدافع لتغيير الشريعة الإسلامية
الكلاسكية:
يتضح من خلال النظرة التاريخية وجود فجوة بين
المفهوم الشرعى الكلاسيكى للجهاد والهدنة أو الصلح وبين التطبيق. ولم يكن التوفيق
بين النظرية والتطبيق فى الشريعة الإسلامية منذ عهد النبى (محمد)صلى الله عليه
وسلم وحتى العصر الحديث إلا نتيجة لعمليات
الموائمة مع الواقع السياسى المتغير والتي
ترجع بدايتها إلى الاتفاقيات التى أبرمها الخلفاء من أتباع النبى(محمد)صلى الله
عليه وسلم مع شعوب غير إسلامية بهدف إحلال الاستقرار بإحدى الجبهات الخارجية كى
يتسنى لهم التفرغ لجبهة أخرى، داخلية كانت (كتمرد مثلاً) أو خارجية. وعلى الرغم من
توقف الفتوحات الإسلامية فى القرن التاسع إلا أن محاولات التوفيق هذه تواصلت نتيجة
لاضطرار المسلمين للتعايش مع جيرانهم من الكفار،
حيث عُقدت اتفاقيات بين الخلفاء الأمويين والعباسيين وبين البيزنطيين، وبين
الأيوبيين والمماليك وبين الصليبيين الفرنكيين، وبين السلاطين العثمانيين والدول
الأوروبية الكبرى. وقد حظيت بعض هذه الاتفاقيات بدعم الفتوى الصادرة من المفتى.
ويتمثل تكتيك تقليص الفجوات بين رؤية الشريعة
والواقع السياسى - بشكل عام - فى الاتفاقيات التى تصل مدتها إلى عشر سنوات (وفقاً
لسابقة صلح الحديبية التى سيتم الحديث عنها باستفاضة تباعاً). وقد تم تجديد هذا الاتفاق
وتمديده لفترات أخرى مماثلة. وفى تلك الفترة لم يغب الجهاد كفكرة عن الفكر الدينى،
لكن الحديث آنذاك كان يدور حول حالة من (الحرب الخاملة) فى ظل الاتفاقيات المؤقتة
مع الحكام غير المسلمين.
وكانت هناك أيضاً اتفاقيات تم إبرامها نتيجة
لتدهور الوضع العسكري للدول الإسلامية. ولم تكن تلك الاتفاقيات - بشكل عام - محددة
المدة الزمنية (يرجع خضوع المسلمين فى غرناطة إلى القرن الخامس عشر، وقد بدأ إبرام
الاتفاقيات بين الإمبراطورية العثمانية ودول أوروبا العظمى من القرن السابع عشر).
وقبل مناقشة تطور الفكر الإسلامى فى العصر
الحديث نورد عرضاً تاريخياً للاتفاقيات المبرمة بين الكيانات السياسية الإسلامية
والكيانات غير الإسلامية.
- الاتفاقيات التى عقدها الخلفاء بين القرن
السابع والقرن الحادي عشر:
تشير الاتفاقيات الأولى مع البيزنطيين إلى واقع
دينامى، ففي أعقاب انتصار المسلمين على البيزنطيين فى معركة (اليرموك) عام 636م أجبر المسلمون سكان (مالطة) على دفع الجزية فى
مقابل عدم الاعتداء. ولما علم القيصر البيزنطى (هرقليوس) بالأمر أرسل قوة عسكرية
أحرقت المدينة. وبسقوط (دمشق) عام 636 م تم التوقيع على اتفاق فى (بعلبك) بين
المسلمين والبيزنطيين، بمقتضاه يكون فى إمكان المسيحيين اليونانيين غير العرب
مغادرة المنطقة. وقد رأى المسلمون أن السماح لعناصر شرسة من العدو من المغادرة أفضل من تمكينها من أن تصبح شوكة
فى ظهرهم داخل الأراضى الإسلامية.
وفى مرحلة متأخرة تم عقد اتفاق هدنة بين
المسلمين والبيزنطيين فى (خالكيذا) بمقتضاه يتسلم المسلمون جزية من البيزنطيين فى
مقابل عدم عبورهم نهر الفرات إلى داخل بلاد الرافدين. غير أن المسلمين قد نقضوا هذا الاتفاق عام 639م
بدعوى أن البيزنطيين لم يدفعوا الضريبة المقررة.
وبعد عشر سنوات عقد المسلمون اتفاق عدم اعتداء
مع حاكم (قبرص) بمقتضاه يدفع (القبارصة) جزية سنوية تقدر بـ 7000 دينار ويساعدون
المسلمين فى التخابر ضد البيزنطيين (وفى المقابل دفع القبارصة كذلك ضريبة
للبيزنطيين والتزموا بالتجسس لصالحهم ضد العرب).
وفى عام 658م عقد (معاوية بن أبى سفيان) والى سوريا
اتفاق هدنة مع القيصر البيزنطى (كونستنتينوس الثانى) كى يتمكن من التفرغ للصراع
على الخلافة أمام خصمه (علي بن أبى طالب). وقد عقد معاوية اتفاقاً آخر مع غير
المسلمين وهم سكان أرمينيا بمقتضاه سُمح للأرمن مواصلة إحكام قبضتهم على السلطة
داخل أراضيهم. وفى عام 662 م وبعد تتويجه
خليفة قام بتمديد الاتفاق الذى سبق عقده عام 656 م مع البيزيطيين، وأبرم اتفاقاً آخر مع المسيحيين
من جماعة (الجراجمه) الذين يعتبرون حليف البيزنطيين فى الشمال.
وبمقتضى هذا الاتفاق دفع الخليفة فدية مالية
للمسيحيين وأعاد لهم أسراهم. وبعد مرور
سبعة وعشرين عاماً، أى عام 689 م جدد
"عبد الملك" الاتفاق الذى أبرمه "معاوية" مع البيزنطيين، كما
أبرم اتفاقاً جديداً مع القيصر (يوستينيان الثاني).
- كيف أثر الواقع السياسي والعسكري على الشريعة
الإسلامية؟
بداية من فترة الأمويين أفتى فقهاء المسلمين بجواز دفع حاكم
المسلمين (فدية مالية) للعدو إذا اقتضت
الضرورة ذلك. وقد استندوا فى ذلك إلى
السابقة التاريخية التى بمقتضاها كان (النبى)صلى الله عليه وسلم مستعداً لإعطاء (الأحزاب)
التى حاصرت المدينة ثلث محصولها من التمر نظير انصرافهم عنها.
وبعد حادث الهجوم المدمر على إحدى القلاع
الإسلامية وزيادة تخوف المسلمين من عدم القدرة على التغلب على العدو طُلب من "الأوزاعى" - أحد فقهاء
المذهب الحنفى فى دمشق (ت 774) - رأيه الفقهى فى اقتراح العدو الخاص باستسلام
المسلمين وتسليم أسلحتهم وعتادهم وخيولهم نظير تركهم إلى حال سبيلهم فأجاز إبرام اتفاق مع الكفار فى مثل هذه الحالة. وقد
أفتى فى موضع آخر أنه فى حال نشوب حرب
أهلية داخل المعسكر الإسلامى، عندئذ يجوز إبرام
اتفاق مع العدو ودفع مبلغاً سنوياً كيلا
يستغل العدو هذا الانقسام الداخلي لصالحه.
وقد واصل الخلفاء العباسيون تقليد الاتفاقيات
مع البيزنطيين ومع شعوب غير إسلامية أخرى. فمثلاً عقد الخليفة (المنصور) اتفاقاً
مع البيزنطيين عام 765 م . وكانت هناك علاقات وطيدة بين البيزنطيين والخلافة،
بموجبها تم تبادل الهدايا وأسارى الحرب بين الحكام. كما عقد الخليفة (هارون الرشيد) عام 797 م اتفاقاً وميثاق صداقة مع النصارى الفرنكيين
برئاسة (كارل الأكبر) ومنحهم سيطرة روحانية على الأماكن المقدسة الخاصة بهم فى بيت
المقدس وبخاصة فى كنيسة القيامة.
ويتأسف المفكر الإسلامى المعاصر (محمد عفيفى) على أن المسلمين - فى تلك الفترة-
لم يروا فى ذلك الأمر خطورة، فى حين كانت لهذا الاتفاق نتائج خطيرة على المسلمين
على المدى البعيد، حيث حظى (الفرنسيسكان) بحق الدفاع عن الأماكن المقدسة فى قلب
فلسطين. ولقد كانت آخر الفتوحات الكبرى لإقليم تحت سيطرة البيزنطيين فى عهد
الخليفة (هارون الرشيد) عام 812 م . ومنذ ذلك الحين كان لزاماً على الخليفة إبرام
اتفاقيات عدم اعتداء متجددة مع البيزنطيين. وفى فترة الأيوبيين يبرز اتفاق الهدنة
الذى عقده (صلاح الدين) مع (ريتشارد قلب الأسد) فى سبتمبر 1192 م ، والذى بمقتضاه وافق القائد المسلم على
حج المسيحيين إلى بيت المقدس الذى كان آنذاك تحت سلطته.
- الاتفاقيات المبرمة فى عصر المماليك:
عقد سلاطين المماليك اتفاقات هدنة مع الصليبيين
الفرنكيين في القرن الثالث عشر. وقد أورد المؤرخ
(هولت) وثائق مترجمة لأحد عشر اتفاقاً
أُبرمت بين السلطان (بيبرس) (1223- 1277م) والسلطان (قلاوون) (1222-1290م) وبين
الحكام الفرنكيين المسيحيين فى الفترة من عام 1260 إلى عام 1290. ويهدف جزء من تلك
الاتفاقيات إلى إقامة علاقات تجارية واستخدام للموانىء، ويهدف جزء آخر إلى أخذ تعهد من قبل الإمارات الفرنكية أو
الإمبراطورية البيزنطية بعدم التحالف مع المغول أعداء المماليك. وجدير بالذكر أن سلاطين المماليك كانوا - على ما يبدو - هم من
جاءوا بسابقة (اتفاقية الاستسلام) مع الدول المسيحية بشأن رعاياها في أراضيهم،
فمثلاً فى الاتفاق بين السلطان (قلاوون) وبين المملكة اللاتينية عام 1283 م - وقد تم
إطلاق مصطلح (عموم الولايات الإسلامية) و (ولايات السلطان وابنه) و (ولايات الفرنكيين) على الأقاليم المذكورة فى
الاتفاق- حُدد فى البند الثانى
والعشرين أن تكون كنيسة (الناصرة) والبيوت الأربعة المجاورة لها مكاناً آمناً
للحج، ولا يُطلب من القساوسة دفع رسوم عن هذه الزيارة. ولكن على ما يبدو أنه نظراً
للمحاذير المعروفة والخاصة بأهل الذمة فقد تقرر فى الاتفاق عدم السماح
بترميم الكنيسة أو إصلاحها حال تهدمها. وقد عُقد اتفاق مماثل عام 1290 م بين السلطان (قلاوون) وبين حاكم (جنوة) تحدد
فيه تمكين أهل تلك المدينة من كنيسة (ماريا) بالإسكندرية على ألا يكون لهم الحق فى
ترميمها حال تهدمها. وتقرر أيضاً أن يحظى
جموع أهل (جنوة) فى الإسكندرية بأحكام قنصل (جنوة). ولقد كان هذا يعد تنازلاً من
قبل السلطة الإسلامية عن صلاحياتها السيادية (إذا أُمكن استخدام هذا المصطلح
المعاصر) فى منطقة إسلامية.
وكان من بين ما تضمنته الاتفاقيات أنه تم
الاعتراف المتبادل بين أطراف هذه الاتفاقيات بمبادئ الدين الخاصة بكل طرف. وقد تم
تأكيد غالبية الاتفاقيات المبرمة بين
الأطراف عن طريق القسم، حيث أقسم السلطان المملوكى من جانب والحاكم الفرنكى من
جانب آخر - فى حضور رسول كل منهما- باحترام الاتفاق. فالسلطان يقسم بـ(الله)
و(القرآن) و(شهر رمضان)، والحاكم الفرنكى يقسم
بما لا يقل عن ثلاثة عشر معتقداً مسيحياً، حيث أقسم السلطان (قلاوون) أنه
فى حالة نقضه للاتفاق يكون ملزماً بالذهاب ثلاثين مرة إلى (مكة) حافى القدمين عارى
الرأس صائماً (باستثناء الأيام التي يكره فيها الصوم)، وفى المقابل أقسم الحاكم
الفرنكى أنه فى حالة نقضه الاتفاق يتوجب عليه الخروج من المسيحية وطرده من الكنيسة
وذهابه للقدس ثلاثين مرة وافتدائه ألف مسلم.
وقد اعتاد المسلمون إبرام اتفاقيات لمدة عشر
سنوات، لكنهم اتفقوا على أن تكون سنوات شمسية وفقاً للتقويم الغربى. ومن أجل
موائمة السنوات العشر القمرية فى التقويم الإسلامي مع التقويم المسيحى تمت صياغة
فترة الاتفاق على النحو التالى " لعشر سنوات وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر
ساعات".
وهناك اتفاقيتان غير محددتى الزمن صيغتا
كاتفاقيات (صداقة وأخوة) مع الإقرار بعدم نشوب أية أعمال عدائية بين الأطراف للأبد.
أما الاتفاق الذى كان أكثر بعداً من ذلك فهو الاتفاق الذى عقده السلطان (قلاوون) عام 1290 م مع الملك (ألفونسو الثالث) من (أراغون) ،
حيث صيغ كتحالف دفاعى يضمن للماليك عدم
تعاون (ألفونسو) مع فرنكيين من جماعات أخرى، سواء مع المغول أو أى عدو آخر
لهم. ويعد البند الحادى عشر من هذا الاتفاق ذا أهمية كبرى فى هذا الموضع،
إذ جاء به ما معناه: تستمر الصداقة والإخاء دون توقف بين الأطراف وفقاً للشروط
المتفق عليها آنفاً والتى ستظل مستقرة، إذ
إن كلتا المملكتين صارتا كياناً واحداً ومملكة واحدة، ولا يُنْتَهَكُ الاتفاق بموت
أحد الأطراف الموقعة عليه أو بتغير أحد
الحكام. حقاً يجوز للمسلمين وفقاً للشريعة إبرام اتفاق مع طرف غير مسلم ضد طرف آخر
غير مسلم، لكن هذه الصيغة بعيدة المدى التى تقر
باعتبار كلتا المملكتين كياناً
واحداً تتعارض مع العقيدة (التقليدية) للجهاد.
وعند مطالعة المصادر العربية بشأن المفاوضات
الدبلوماسية بين المماليك والحكام المسيحيين
نجد أنها قد أُديرت على أيدى دبلوماسيين، فلن نجد مطلقاً تقريراً مثبوتاً
فيه حضور أى من رجال الدين الإسلامى مراحل المفاوضات وجلسة القسم الخاصة بالسلطان.
ويتضح كذلك أن الواقع العسكرى والسياسى هو الذى دفع السلاطين المسلمين إلى التحلى
بالمرونة أثناء تحديد شروط الاتفاقيات التى أُبرمت مع (الفرنجة)(الكفار) مغتصبى
الأرض المقدسة، تلك المرونة التى تجلت أيضاً فى صياغة الاتفاقيات والقسم الخاص بالمعتقدات
المسيحية بما فيها الإقرار بأن القدس هى
القبلة التى يحج إليها الصليبيون.
- الأندلس الإسلامية:
استدعت الحروب الإسلامية هى الأخرى ضد
المسيحيين فى الأندلس أوضاعاً سياسية مركبة من الحرب والسلام. وقبيل سقوط الأندلس
فى أيدى المسيحيين اضطر خليفة المسلمين (أبو الوليد بن الأحمر) لدفع (فدية)
للمسيحيين. وفى النهاية منيت آخر الخلافات
الإسلامية فى (غرناطة) بهزيمة عام 1492 م على أيدى تحالف جيوش (فرديناند) ملك (أراغون)
و(إيزابيلا) ملكة (قشتالة). وقد انضوت اتفاقية (استسلام غرناطة) على سبعة وستين
بنداً، بمقتضاها تقرر أن يأمن المسلمون
على حياتهم وأموالهم، وأن يكون بإمكانهم البقاء فى بيوتهم وإقامة شعائر دينهم، وأن
يُقاضوا وفقاً لأحكام الشريعة، وتظل المساجد والأوقاف الإسلامية كما هى، وألا يفرض
المسيحيون أو اليهود أي قوانين عليهم، وأن
يُفرَج عن الأسارى المسلمين، وأن يُسمح لمن يطلب الهجرة إلى المغرب بالهجرة، وألا
يُعاقَب مسلم قتل مسيحياً أثناء الحرب. وبعد ذلك انتهك المسيحيون شروط الاتفاقية
تدريجياً، وأجبروا كثيراً من المسلمين على التنصر، ففر جزء من المسلمين إلى شمال
أفريقيا بمن فيهم السلطان الذى توجه مع أسرته إلى (فاس) بالمغرب عام 1636م.
- الاتفاقيات التى أبرمها العثمانيون:
إذا كانت الاتفاقيات التى أبرمها سلاطين
المماليك تخرج عن إطار رؤية الشريعة الإسلامية الكلاسيكية فإن الاتفاقيات التى
أبرمها السلاطين العثمانيون كانت أيضاً أكثر بعداً عن إطار الشريعة الإسلامية
الكلاسيكية. ويجب التأكيد على أن غالبية الاتفاقيات منذ القرن السابع عشر فصاعداً كانت بالفعل اتفاقيات استسلام تم
إبرامها بعد هزيمة العثمانيين أكثر من مرة على أيدى الدول الأوربية الكبرى فى ساحة
المعركة. ولم يكن أمامهم خيار إلا القبول
بالإملاءات والنظم القانونية للدول
الأوربية الكبرى التى أبرموا معها تلك الاتفاقيات.
والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: هل تم التصديق
على تلك الاتفاقيات من قبل شيخ الإسلام
الذى كان أحد الأعمدة الثلاثة الرئيسة إلى جانب السلطان ورئيس الوزراء
(الوزير الكبير) والذى كان يقف على رأس المؤسسة الدينية، وكان يشغل أيضاً وظيفة
(المفتى) الرئيس للإمبراطورية، وهو كذلك مَنْ
تستوجب قرارات الحرب والسلام تصديقاً منه ؟.
هنا أشير إلى أننى لم أعثر على فتاوى مفصلة من
قبل شيخ الإسلام تنضوى على تصديق منه على اتفاقيات السلام التى أبرمها السلاطين،
لكن يمكن الافتراض بأنه كان على علم بمحتواها، وقد اضطر - على ما يبدو - إلى
الموافقة عليها استناداً إلى المبرر الشرعى المتمثل فى (الضرورة).
ويعد الاتفاق الأول من قبل العثمانيين الذى ينضوى
على اعتراف ومساواة بطرف غير مسلم هو اتفاق (حلف لافوريا) الذى عقده السلطان
سليمان المعظم عام 1535 م مع ملك فرنسا (فرنسيس الأول) ضد إمبراطورية (الهابسبورج)
فى (النمسا)، حيث مُكَّن أمراء مسيحيون آخرون من الانضمام إلى الحلف، ذلك الحلف
الذى كان ينضوى على اعتراف بالقوميات المختلفة المقيمة فى الدول المسيحية والإسلامية
واعتراف بوجود كيان ديني آخر. وقد توصل " مجيد خدورى" إلى ثلاثة مبادئ مهمة فى هذا الاتفاق هى: أنه
اتفاق سلام متين طيلة فترة حياة كلا الزعيمين، كما يلتزم فيه كلا الطرفين بالعلاقات
المتكافئة والثنائية الخاصة بمصالح كل منهما، وإعفاء الرعايا الفرنسيين من دفع
الجزية ومقاضاتهم فيما يخص علاقاتهم بالمسلمين وفقاً لقوانينهم لا لقوانين الشريعة
الإسلامية.
وقد تم إبرام اتفاقية (أماسيا) التى عقدها
السلطان (سليمان) بعد ذلك مع شاه إيران عام 1555 م من خلال تبادل الخطابات، حيث
كتب كل طرف فى خطابه الشروط التى ارتضاها. وقد انحرفت هذا الاتفاقية فى محتواه عن
العقيدة الكلاسيكية التى لا تمنح شرعية للطرف الثانى، وإنما تعكس فقط الوضع الراهن
بالفعل. وبعد نصف قرن من ذلك وفى اتفاق (توروك) الذي أُبرم عام 1606 م بين (رودولف
الثانى) إمبراطور الهابسبورج وبين السلطان
العثمانى مُنح كلا الطرفين مكانة متناظرة، حيث اعترف السلطان العثماني بحاكم الهابسبورج
كإمبراطور وليس كملك لفيينا كما كان متبعاً قبل ذلك.
وفى القرن السادس عشر، وفى ظل الضعف الذى كان
العثمانيون لا يزالون يعانون منه، فقد أكدوا كذلك على فكرة الجهاد. ويتمثل ذلك فى
الفرمان السلطانى الذى بعث به (سليم الثانى)(1566 م – 1574م) فى 17 يناير 1568 م إلى حاكم مصر
يأمره فيه بحفر قناة بين البحر
المتوسط والبحر الأحمر لإقصاء البرتغاليين
الذين استولوا على الهند، هذا نصه: " أجدادي الأُول وآبائى الموقرون فى
الماضى الذين انحدروا من أسرتنا التى كان الجهاد طموحها ... إنهم فتحوا مناطق
متعددة وولايات فى الغرب والشرق من أيدى الكفار وأخضعوها بحد السيف، وقد كُلل
عملهم بالنصر وضموها في إمبراطورية عثمانية عصماء... السلاطين ذائعو الصيت ...
اكتسبوا مجدهم وكبريائهم من كونهم (خُدَّام الأماكن المقدسة). البرتغاليون
الملاعين سيطروا ... لأنهم استولوا على الهند، وقد أُغلقت طرق المسلمين القادمين
من تلك المنطقة إلى الأماكن المقدسة. بالإضافة إلى ذلك، فمن غير المقبول أن يكون
المسلمون تحت سلطة الكفار النجساء الذين مثواهم فى جهنم. وبالتوكل على (الله)
وكرامات (النبي)صلى الله عليه وسلم فسوف نُخَلِّصُ الهند من أيدى الكفار، وسيرحلون
عنها بالقوة.
وقد تغير الوضع بدايةً من القرن السابع عشر،
فكلما ازداد وضع الإمبراطورية العثمانية تدهوراً كلما كانت الاتفاقيات التى
أبرمتها مع الدول الأوربية الكبرى فى غير صالحها، خاصة منذ الحصار الثانى على
(فيينا) عام 1683م وحتى بداية القرن التاسع عشر وظهور (المسألة الشرقية) التى كان
ظهورها إيذاناً بترقب الدول الأوروبية الكبرى للانهيار المؤكد للإمبراطورية العثمانية.
وفى كثير من الأحيان كان العثمانيون فى حاجة إلى صداقة بعض الدول الكبرى فأقلعوا
عن استراتيجيتهم فى الجهاد وتعلموا أسرار سياسة البقاء وقواعد الدبلوماسية
المعاصرة.
وقد بدأ القانون الدولى العلنى المتبع بين
الدول فى التطور فى أوروبا عام 1648 م وذلك فى اتفاق (صلح وستفاليا) الذى وضع
نهاية لحرب الأعوام الثلاثين، حيث تمخض عن هذا الاتفاق الأوربى الداخلى (الذى خلى
من العثمانيين) اعتراف بمبدأ سيادة الدول على أراضيها، كما أدى إلى حالة من
الاستقرار فى الدول الأوروبية على مدار
مائة وثلاثين عاماً تقريباً حتى
الثورة الفرنسية وحروب نابليون فى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع
عشر. وقد تم وضع حد لهذه الحروب فى مؤتمر (فيينا) المنعقد فى مايو من عام 1814م، ذلك المؤتمر الذى شاركت فيه جميع
الدول الأوربية وأدى إلى استقرار الوضع السياسى بها لأول مرة. وفى أعقاب الهزيمة
العثمانية فى الحروب فرضت الدول الكبرى على السلاطين اتفاقيات سلام ذليل انضوت على
تنازلات عن أراضٍ كانت من قبل تحت سلطة العثمانيين (وبالتالى فهى تقع فى نطاق دار
الإسلام). وأحياناً فُرض عليهم دفع تعويضات عن الضرر الذى ألحقوه العدو، فمثلاً فى
اتفاقية (كارلوفيتش)(1699م ) تنازل العثمانيون للنمسا عن المجر وأراضٍ شاسعة من (ترانسلفانيا) وكرواتيا
وسلوفينيا. وقد تغير الاتفاق المبرم عام 1535 م فى عام 1740م، وأُعطيت فرنسا الحق فى حماية
رعاياها فى السلطنة على الرغم من وجودهم تحت مظلة الحكم العثمانى. وفى أعقاب هزيمة
العثمانيين فى حربهم ضد روسيا عام 1768-1774م (بمشاركة على بيك الكبير من مصر) تم عقد اتفاقية (كوجك قاينارجه) فى
بلغاريا فى الحادى والعشرين من يوليو لعام
1774م. وقد خوَّل هذا الاتفاق روسيا الاقتراب المباشر من البحر الأسود وحرية
الملاحة فى مضايق (الدردنيل). وكان من تبعات تلك الهزيمة أيضاً أنه قد انسلخت عن
الإمبراطورية العثمانية أراضى التتار التى حصلت على الاستقلال وأراضى فى صربيا
وأراضى أخرى فى الشرق. كما تم الاتفاق على أن يُلقب (قيصر) روسيا فى الوثائق
الرسمية بـ (إمبراطور) أى إمبراطور الولايات الروسية، وأن يصبح المسيحيون من رعايا
الإمبراطورية العثمانية تحت الحماية الروسية، ويمثلهم سفير روسيا فى دولتهم. وقد
تقرر أيضاً فى هذه الاتفاقية حرية زيارة الروس إلى القدس والأراضى المقدسة، وأن
تكون تلك الزيارة معفاة من أية ضريبة، وأن تقام كنيسة جديدة فى (اسطنبول) تخضع
إدارتها للسفير الروسى. ولم تكن هذه الاتفاقية محدد المدة الزمنية، وأُطلق عليها
فى ترجمتها العربية (صلح /مصالحة) أى إنهاء لحالة من العداء. وكذلك تم الاتفاق على
أن تدفع الإمبراطورية العثمانية (غرامة حرب) مالية لروسيا. ولسنا فى حاجة إلى
القول إن هذه الاتفاقية تعد الانقلاب التام على عقيدة الجهاد وأن مبررها الشرعى
يرجع إلى الضرورة فحسب.
ولم يكن خضوع المسيحيين لحماية الدول الأوروبية
الكبرى ظاهرة غريبة، خاصة أن الخلفاء قد ذهبوا إلى أن المسلمين فى البلدان غير الإسلامية
كانوا يخضعون لحمايتهم، ولم يكن هذا الأمر ينضوى على أى نوع من الإهانة، حيث إن رؤيتهم
كانت تختلف عن رؤيتنا. وقد بدأ التغير الجوهرى فى القرن الثامن عشر بالتدخل الفعلى
للدول الأوروبية الكبرى فى الشئون الداخلية للسلطنة.
وقد تدهور وضع الإمبراطورية العثمانية بشكل
كبير فى القرن التاسع عشر بعد أن تمرد
اليونانيون عام 1821 م ضد الإمبراطورية العثمانية، وبعد أن تدخلت الدول الغربية
لصالح اليونانيين المسيحيين، تلك الأحداث التى انتهت بهزيمة العثمانيين فى معركة
(نافارين). وفى أعقاب ذلك، ورد فى البند الثالث عشر من
اتفاق السلام الذى تم عقده عام 1829م
فى (أدرنة) أن كلا الطرفين قد أعادا فيما بينهما علاقات الإخاء الحميمية،
واضطُر العثمانيون إلى الاعتراف باليونان المسيحية كدولة مستقلة تحت رعاية روسيا
وبريطانيا وفرنسا.
وقد نوهت الاتفاقيات التى أُبرمت بين
العثمانيين والدول الأوروبية الكبرى فى منتصف القرن التاسع عشر بالفعل - وبشكل تفصيلى - بقواعد (القانون الدولى) وبمبدأ (حل النزاعات
بالطرق السلمية)، تلك القواعد والمبادىء التى كانت غير مألوفة فى الشريعة
الإسلامية. وتعد معاهدة باريس (30 مارس 1856م) من أبرز الوثائق فى هذا الشأن، حيث
أنهت حرب (القرم) ، وفى أعقابها انضم السلطان بالفعل إلى (المجمع الأوروبى) وأصبح
جزءاً من الأسرة الدولية ومن المنظومة السياسية المألوفة لدى الدول الأوربية
الكبرى، كما قَبِلَ بالرؤية الأوربية للعلاقات الدولية. وقد أرسى البندان الثامن
والسابع والعشرون مبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية، وكذلك تعهدت الأطراف فى البند
الرابع عشر - والذى يتناول حقوق الملاحة فى نهر (الدانوب)- بالعمل وفقاً لـ
(قوانين الملاحة الدولية) التى حُددت قبل ذلك فى اتفاق (فيينا) بشأن الأنهار
الجارية فى أراضى مجموعة من الدول. وقد حَددت
المعاهدة - فى عمومها - حرية الملاحة فى نهر (الدانوب) ومضايق (الدردنيل)
وفرض الحماية الروسية على الرعايا المسيحيين فى الإمبراطورية العثمانية. كما تحدد
أيضاً فيها الفرمان السلطانى الذى صدَّق على الحقوق الخاصة بالجماعات غير المسلمة
وحصانتها داخل الإمبراطورية العثمانية، ومُنح لكل من (الأفلاق) و (مولدوفا) الحكم
الذاتى بعدما كانتا تحت السلطة العثمانية.
وقد تمت الإشارة بشكل تفصيلى إلى قواعد القانون
الدولى فى معاهدة (صلح: كما يطلق عليه فى العربية) (سان ستيفانو) التى عُقدت بين
العثمانيين وروسيا عام 1878 م . حيث جاء فى البند الثانى منها فى سياق اتفاقيات
الاستسلام أنها ستجرى "وفقاً للقانون الدولى وصلاحياته داخل الدول التابعة
للإمبراطورية العثمانية". ففى هذه المعاهدة، تم تخويل السفير الروسى فى اسطنبول صلاحية مقاضاة القساوسة
والمقدِّسين (زائرى بيت المقدس) والسياح المسيحيين الموجودين فى جميع أنحاء
الإمبراطورية. وقد تجلى التنازل المهين من قبل العثمانيين عن صلاحيتهم إزاء
الرعايا المسيحيين فى معاهدة برلين (1878م)، حيث أُجبر العثمانيون على تأمين
الأرمن المسيحيين من هجمات الشراكسة والأكراد تحت رقابة الدول الكبرى، الأمر الذى
منح تلك الدول قدراً كبيراً من التدخل فى الشئون الداخلية للإمبراطورية الإسلامية.
وقد تجلت أيضاً حالة الإذلال التى فرضت على العثمانيين فى اضطرارهم إلى التنازل عن
بعض الأراضى لدول لم تشترك مطلقاً فى الحرب مثل اليونان وإيران.
وثمة اتفاقيات سلام تم عقدها بين الحكام المسلمين
وبين دول غير إسلامية حظيت بدعم فتوى المفتى. ويعد ما حدث فى الجزائر خير دليل على
هذه الاتفاقيات، فقد عقد الأمير " عبد القادر الجزائرى " فى الثلاثينيات
من القرن التاسع عشر اتفاقيات مع سلطة الاحتلال الاستعمارى الفرنسى فى شمال
الجزائر، حيث أيدت إحدى فتاوى كبار علماء المسلمين فى المغرب تلك الخطوات. ولهذا
المشهد الجزائرى أهمية بالغة إذا ما قورن بالفتاوى المتعلقة بإمكانية تحقيق السلام
مع إسرائيل، إذ إن إسرائيل تعد أيضاً فى نظر المسلمين محتلاً أجنبياً لأراض
إسلامية (دار الإسلام)، والتى تفرض الشريعة الإسلامية الجهاد ضده. وفى كلا
الموقفين فرضت الضرورة السياسية على المسلمين إعطاء تفسير جديد للمصادر يتواءم مع الواقع. وسوف يرد نص الاتفاق المبرم
بين الزعيم الجزائرى والفرنسيين وتحليله فى الفصل العاشر.
.jpeg)