موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية


الإسلام الكلاسيكى والإسلام المعاصر وما بينهما:

اشتد الغضب بالمفكرين المسلمين على الاستشراق الغربى إبان القرن العشرين، وتحديداً على مؤرخى الشرق الأوسط ذوى النزعة إلى تفسير الإسلام بشكل شمولى اعتماداً على مصادره القديمة، مصوريين إياه بشكل مخيف كمؤيد لحرب دينية مفتوحة.

وقد وجه بعض المفكرين وعلماء الدين لهؤلاء "المستشرقين" اتهامين رئيسين: يتمثل الأول فى نظرتهم غير التاريخية التى تميل إلى تفسير الإسلام فى جميع الأزمنة وفقاً لمصدريه القديمين: القرآن الكريم والسنة. وتتجاهل هذه النظرة حركة التاريخ والتغير الإسلامى وتطور التشريع الإسلامى عبر العصور بما يتفق مع متطلبات الزمان والمكان. أما الاتهام الثانى الذى وُجِّه إلى الاستشراق الغربى فيتمثل فى عدم أخذه فى الاعتبار التعددية فى الإسلام، واختلاف آراء مُشرعيه وتعددها، والاختلاف بين المذاهب الفقهية المختلفة وبداخلها، ونهج التفسير المتجدد (الاجتهاد) الذى مكَّن علماء الشريعة الإسلامية من إيجاد حلول شرعية جديدة عبر العصور.

وقد وقع نقد الاستشراق هذا - هو الآخر- فى تعميم حاد. فالحقيقة أن المستشرقين قد أدركوا الأنماط والبدائل المختلفة فى العالم الإسلامى، غير  أن بعضهم ذهب إلى أن العقيدة الإسلامية الكلاسيكية لم تضعف، وأنها مسيطرة على فكر بعض المسلمين المعاصرين قولاً وعملاً. وبناء  على  ذلك، فإنها لم تتقلص بعد بل العكس هو الصحيح. ويمكن التمثيل لهذا الجدل التفسيرى من خلال استدعاء "ياسر عرفات" لفكرة مستوحاه من التاريخ الإسلامى القديم، وذلك فى حديثه بأحد مساجد جوهانسبرج كى يبرر اتفاق السلام الذى أبرمه مع إسرائيل فى سبتمبر 1993. لقد عقد "عرفات" مقارنة بين اتفاق (أوسلو) وبين (صلح الحديبية) الذى أبرمه النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم فى عام 628 م مع عبدة الأوثان من سكان مكة. وقد أدلى بعض الخبراء الإسرائيليين وغير الإسرائيليين المتخصصين فى شئون الشرق الأوسط برؤى مختلفة حول نوايا "عرفات" من الإشارة  إلى صلح الحديبية.

وقد أثار هذا الجدل توجهات مختلفة يُفهم من خلالها العالم الإسلامى الكلاسيكى والعالم الإسلامى المعاصر. وقد تم تحليل هذه القضية فى الفصل الثالث، الأمر الذى دفعنى إلى أن أعرض الخلاف التفسيرى داخل الدوائر  الإسلامية ذاتها وكذلك  الخلاف بين مؤرخى الشرق الأوسط. وسواء أخذنا بهذا الرأى أو ذاك، فمعلوم أن أفكار الإسلام الكلاسيكى تشغل حيزاً مهماً فى الخطابين العربى والإسلامى المعاصرين.

وتكمن الصعوبة الأساسية والخاصة بمحاولة ربط الأحداث السياسية الجارية بتفسير مصادر الشريعة الإسلامية الكلاسيكية فى حقيقة أن أحكام الحرب والسلام قد تمت صياغتها فى الإسلام وفقاً للواقع السياسى والاجتماعى للقرن السابع الميلادى، أى فترة النبىصلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة من بعده.

فمنظومة العلاقات فى فترة (محمد)صلى الله عليه وسلم كانت تتمثل فى العلاقات بين القبائل، تلك القبائل التى كانت تعيش - فى الغالب الأعم – على السطو على قوافل القبائل الأخرى. وقد أبرمت تلك القبائل أحياناً فيما بينها مواثيق واتفاقيات لمجابهة تحالفات القبائل المعادية، وتوصلوا كذلك فى بعض الأحيان إلى اتفاقيات عدم اعتداء فيما بينهم.  ذلك هو الواقع الذى عايشه النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم فى الوقت الذى كان فيه زعيماً لتيار سياسى. وقد طبَّق المعايير التى كانت مألوفة فى زمانه فى شبه الجزيرة العربية فيما يخص علاقاته بأفراد القبائل والجماعات العرقية والدينية (مثل اليهود، الذين كانوا مندمجين داخل بعض القبائل  أو يمثلون قبائل خاصة بهم) أثناء الحروب وإجراء التحالفات وعقد اتفاقيات عدم الاعتداء واتفاقيات السلام التى أبرمها.

ولم يكن المفهوم العصرى للسلام كاتفاق دائم، أى علاقات سياسية راسخة وطبيعية، مألوفاً على الواقع الذى ساد شبه الجزيرة العربية فى القرن السابع الميلادى، ذلك الواقع الذى يعكسه القرآن والسنة والاتفاقيات التى أبرمها (النبى)صلى الله عليه وسلم أو  خلفاؤه الراشدون.

وأعرض فى هذا الفصل أسس العقيدة الكلاسيكية عن الحرب والسلام فى الشريعة. وسوف تُعرض فى الفصل القادم الصورة المركبة للعلاقات الدولية فى الإسلام المعاصر، والتطور التاريخى الذي حفَّز على تغير التفسير. أما مصطلح "علاقات دولية" فهو مصطلح عصرى يصف العلاقات الخارجية بين دول ذات سيادة وذات منظومة علاقات عامة. ويختلف هذا المصطلح تماماً عنه فى العصر الوسيط، وعن الرؤية القر آنية للإسلام ككيان عالمى لا يمنح شرعية لكيانات دينية سياسية أخرى. وتيسيراً سوف أستخدم مصطلح "علاقات دولية" كى أصف العلاقات بين كيانات سياسية إسلامية وبين كيانات سياسية غير إسلامية فى فترة ما قبل المعاصرة.

وتحتل الرؤية التاريخية مركزاً أساسياً فى هذا البحث، الذى يتناول المواقف الإسلامية إزاء السلام مع إسرائيل. حيث نناقش فى الفصول القادمة كيف يتعامل علماء الشريعة الإسلامية مع قضية العلاقة بإسرائيل على خلفية الأحداث السياسية المتغيرة. ففقهاء الشريعة الإسلامية وعلماؤها - على مايبدو -  يغيرون من توجهاتهم حيالها من تأييد للسلام معها إلى تأييد للحرب والعكس. وشبيه بذلك ما حدث على مدار 1400 عام هى عمر الإسلام ، الأمر الذى مكَّن من فهم تفسير  الشريعة على خلفية التغيرات السياسية التى طرأت على مر التاريخ الإسلامى وعلاقته بالعالم غير الإسلامى. ونعرض - بادئ ذى بدء - مصادر الشريعة الإسلامية ونهج التفسير الذى يُمَكِّن من موائمته مع الواقع المتغير. ونعرض فيما بعد التغيرات التاريخية التى ساهمت فى تنوع التفاسير.

- مصادر التفسير الإسلامى:

إن مصدرى التشريع الإسلامى الرئيسين هما القرآن الكريم والسنة. أما القرآن الكريم فهو كلام (الله) المنزل على نبيه (محمد)صلى الله عليه وسلم، وأما السنة فهى مجمل أحاديث (النبى)صلى الله عليه وسلم أو المنسوبة إليه وكذلك سلوكه، وتشمل (الحديث)، وهو جمع ضخم من الروايات المنسوبة للنبيصلى الله عليه وسلم ولفترته والمروية على لسان أبناء جيله المقربين (الصحابة). ولكلا المصدرين تفسير  ذو أوجه متعددة، حيث يشتمل القرآن الكريم على آيات ذات دلالات متباينة، أجريت - بسببها- محاولات لتفسيره على خلفية تاريخية، كأن تنسخ الآية الواردة فى موضع ما الآية السابقة عليها.

ويشتمل الحديث أيضاً على جمع كبير من التعاليم التى تظهر بروايات مختلفة، قد تتعارض أحياناً. ويحدد  المسلمون المتدينون  صحة الأحاديث بناء على أسماء رواتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء جيله، فى حين يرى الاستشراق الغربى فى ذلك أمراً يعكس خلافات بين أجيال  أكثر تأخراً كما يعكس أيضاً مصالح خاصة بهم، حيث قام بتدوين الأحاديث  فقهاء أرادوا  إضفاء نوعاً من الشرعية على مواقفهم فى التفسير. إذن، فأمامنا مساحة رحبة تمنح المشرعين فى الإسلام قسطاً كبيراً من الحرية فى صياغة التشريع وتغييره، لذلك تجدر إضافة السِّير الإسلامية القديمة التى تصف تاريخ (النبى)صلى الله عليه وسلم والخلفاء. فهى تعرض (سوابق) تاريخية لنهج (النبى)صلى الله عليه وسلم وأبناء جيله (الخلفاء الراشدين الأربعة). ولكل رواية تاريخية مكانة شرعية موثوق بها، ومن ثم يمكن استخدامها مادة فى يد المفسر وفقاً لمقتضيات العصر.

وفى فترة تبلور التشريع الإسلامى على مدار الثلاثمائة عام الأولى فى الإسلام (من القرن السابع حتى القرن التاسع) تطورت مذاهب فقهية مختلفة بفعل مواقعها الجغرافية بشكل عام، وقد تمايزت  تلك المذاهب  عن بعضها فى تشريعاتها وتفسيراتها. وقد تجلت آراء فقهاء الشريعة فيما ألفوه من كتب وفى الفتاوى المدونة الواردة على هيئة سؤال وجواب والتى أصبحت  - بمرور الزمن – جزءاً  لا يتجزأ من مصادر التشريع الإسلامى. وفى مرحلة ما تم اعتماد مبدأ (الإجماع)، وهو اتفاق فقهاء أحد العصور إجماعاً  فى قضية محددة بحيث يعد هذا الاتفاق فتوى شرعية ملزِمة. وفى فترة لاحقة تم اعتماد مبدأ (الرأى الأرجح)، أى رأي جمهور الفقهاء. وثمة مسألة أخرى تجلت فيها مسألة تعدد الوجوه، ألا وهى مسألة (تفسير القرآن)، حيث تم استخدام النمط الذى فسر المفسرون  عليه الآيات قاعدةً لاستنباط الأحكام الملزِمة من واقع التفسير. إذن فنحن أمام تعددية فى منهج التشريع الإسلامى منذ بداياته.

ويطلق على منهج التفسير الشرعى (اجتهاد)، أى الجهد التأويلى  فى القضايا التى لم تحسمها مصادر الشريعة. وهناك، كما هو معلوم، مبادئ أساسية حاسمة وردت فى القرآن بشكل لا يحتمل أكثر من وجه. وبناء على ذلك، فقد تميزت بالثبات ولم يطرأ عليها أى تغيير على مر العصور، إلا أن معظم القواعد الشرعية قد طرأت عليها تغيرات منذ القرن السابع وحتى عصرنا هذا، ولربما كانت - فى وقائع كثيرة -  تغيرات (درامية) .

وبمرور الوقت صنَّف علماء الشريعة فقهاء الشريعة الإسلامية إلى صنفين هما: السائرون على درب السلف (مُقَلِّدُون) فى مقابل المجددين (المجتهدين). وثمة سؤال يختلف حوله الباحثون فى الشريعة الإسلامية، والذى يضيق المقام ههنا لمناقشته، وهو: هل توقفت عملية (الاجتهاد) فى بداية القرن العاشر الميلادى، أم توالت باستمرار تفاسير لتلك المصادر ؟.

على أية حال، فنحن نشهد فى القرن العشرين على وجود جهد ضخم لإعادة تفسير المصادر الكلاسيكية فى التشريع الإسلامى بهدف موائمتها مع الواقع المعيش. وقد أُطلق على هذه العملية (الاجتهاد الجديد).

ونتناول - بدايةً- مفهوم  الحرب والسلام فى الإسلام كما صوَّره القرآن الكريم والتراث.

- العقيدة الكلاسيكية للجهاد والاتفاقيات مع غير المسلمين:

لقد تبلورت العقيدة الكلاسيكية للعلاقات الدولية فى الإسلام فى المائتى عام الأُوَل من تاريخ الإسلام، أى منذ فترة الفتوحات وحتى منتصف القرن التاسع الميلادى. وقد أدى الواقع العسكرى والسياسى الذى ساد إبان توقف الفتوحات وانقسام الخلافة العباسية إلى ظهور مناقشات شرعية متعمقة بشأن الاتفاقيات التى يُسمح للمسلمين بعقدها مع غير المسلمين، وذلك منذ القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر.

ونعرض - بادىء ذى بدء- الآيات القرآنية التى تتناول الدعوة للجهاد بمفهومه القتالى ثم الآيات التى تتحدث عن اتفاقيات عدم الاعتداء واتفاقيات السلام، وسوف نتبعهما برؤى قدامى المفسرين لتلك الآيات.

- الحرب والسلام فى القرآن الكريم:

إن توجيهات القرآن الشرعية الخاصة بالحرب والسلام ليست أحادية الدلالة، فيمكن أن نجد فى القرآن آيات تدعو المسلمين إلى قتال الكفار جنباً إلى جنب مع آيات تدعو للسلام. وقد تجلى الوجه القتالى للجهاد فى عدد من آيات القرآن التى تتناول وجوب قتال الكفار. والآية التالية (190) من سورة (البقرة) تعد الأولى بين آيات القرآن الكريم المُوحى بها إلى (محمد)صلى الله عليه وسلم والتى تشتمل على أمر بالخروج لقتال الكفار حال مبادرتهم بقتال المسلمين، تلك الآية التى سبقتها آيات أخرى تأمر بالتريث إذا  لم يكن المسلمون بالقوة الكافية التي تمكِّنهم من قتال الكفار: (وَقَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ). ويشير "أورى روبين" - باحث علوم القرآن والتراث الإسلامى والذى اعتمدتُ فى هذا المؤلَّف على ترجمته القرآن إلى العبرية- إلى أن هناك بعضاً من مفسرى الإسلام ممن يعتقدون أن هذه الآية قد تم نسخها بواسطة الآيات اللاحقة عليها -(كما فى الآية (5) من سورة (التوبة)  التى سيتم الاستشهاد بها لاحقاً)- والتى تنضوى على أمر بقتال كافة الكفار أينما وُجدوا، فى حين يذهب مفسرون آخرون إلى أن الآية القرآنية لا تُنسخ مطلقاً. وهناك آية أخرى تعد بمثابة الآية الأولى التى تتيح الجهاد بعد ما حُرِّم على المؤمنين حال عدم قدرتهم الكافية على القتال، وهى الآية (39) من سورة (الحج)(أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُوا۟ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِیرٌ). وثمة آية أخرى تتناول فتح  مكة  فى عام 630 م من أيدى الكفار، وهى الآية (191) من سورة (البقرة): (وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَیۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَیۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَـٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِیهِۖ فَإِن قَـٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَلِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ). يتضح من هذه الآية أن المسلمين أُمروا بقتال أهل قريش إبان فتح مكة، أى أولئك الذين طردوهم من قبل، وطرد من تبقى بها. وهناك مَنْ فَسَّر هذه الآية بحرب واسعة على الكفار أينما كانوا . وبعد ذلك تنهى آية أخرى عن الحرب إذا انتهى العدو عنها، وهى الآية (193) من سورة (البقرة)، ثم تعرض الجملة التالية لها من نفس الآية الغاية العظمى من وجوب الحرب على الكفار ألا وهى هيمنة الإسلام على البشرية جمعاء: (وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَة وَیَكُونَ ٱلدِّینُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡا۟ فَلَا عُدۡوانَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ).  ويضع الجزء الأخير  من الجملة قيوداً على استمرار القتال.

وفى القرآن الكريم عدد من الآيات التى تدعو إلى شن حرب بلا هوادة على الكفار، كما فى الآية (60) من سورة (الأنفال) : (وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡء فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ)

وقد أطلق مفسرو  القرآن الكريم على الآية (5) من سورة (التوبة) (آية السيف) ، حيث إنها تدعو لشن حرب أخرى ضارية ضد الكفار بانتهاء الأشهر الحرم التى يُحرَّم فيها سفك الدماء:   (فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُوا۟ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَد فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّوا۟ سَبِیلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُور رَّحِیم)

وهناك من يفسر الأمر بقتال الكفار بأنه ينسخ آيات أخرى فى القرآن تدلل  على وجود علاقة طيبة مع غير المسلمين. وتبيح آية أخرى وهى الآية (36) من سورة (التوبة) دم الكفار  فى جميع أيام السنة بما فيها الأشهر الحرم: (إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرا فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ یَوۡمَ خَلَقَ السَّمَواتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَاۤ أَرۡبَعَةٌ حُرُمۚ ذَلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُوا۟ فِیهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَـٰتِلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ كَاۤفَّة كَمَا یُقَـٰتِلُونَكُمۡ كَاۤفَّة وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ)

وتدعو آية أخرى وهى الآية (38) من سورة (التوبة) مسلمي المدينة للخروج إلى الحرب ضد قوات الروم الذين تمركزوا  فى تبوك عام 630 م إثر إشاعة ما: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَا لَكُمۡ إِذَا قِیلَ لَكُمُ ٱنفِرُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِیتُم بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا مِنَ ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ فَمَا مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ)  وننوه فى النهاية بالآية (29) من سورة (التوبة) التى تتناول فئة (أهل الكتاب) - وبخاصة اليهود والنصارى - الذين ارتضوا بمكانة دنيا ووضيعة تحت الولاية الإسلامية ودفعوا الجزية مقابل عدم قتالهم:  (قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَلَا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا یَدِینُونَ دِینَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَد وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ)

ففى هذه الآية تم التمييز بين نوعين من غير المسلمين ممن أُمر المسلمون بقتالهم هما: الكفار بصفة عامة فى مقابل أهل الكتاب. وثمة آية أخرى وهى الآية (41) من سورة (التوبة) تدعو إلى الشهادة فى الحرب:  (ٱنفِرُوا۟ خِفَافا وَثِقَالا وَجَـٰهِدُوا۟ بِأَمۡوالِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۚ ذَلِكُمۡ خَیۡر لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ)

وفى مقابل آيات الحرب، توجد فى القرآن الكريم آيات تدعم السلام مع غير المسلمين، ومن أبرز هذه الآيات الآية (61) من سورة (الأنفال): (وَإِن جَنَحُوا۟ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ). وتنفرد  هذه  الآية بأنها تتحدث بلغة عامة، وأنها غير مُقيدة على الإطلاق، سواء من جهة مَنْ يُصنع معهم السلام أو من جهة مدته. وقد اتخذها مفسرون معاصرون مُبرراً للسلام مع إسرائيل، لذا فمن المهم الوقوف على دلالتها، إذ يتضح من خلال صياغتها أنه إذا ما جنح العدو للسلام كان لزاماً على المسلمين الاستجابة لمطلبه. وتكمن أهمية "آية السلام" في ورودها بعد إحدى آيات الجهاد - التي ذكرناها سابقاً- مباشرة، وهى الآية (60) من سورة (الأنفال):  (وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡء فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ)

وتبدو الدعوة للاستجابة لجنوح العدو  للسلام - فى ظاهرها- مثيرة للدهشة، إذ إنها تتعارض مع الأمر بجهاد الكفار  ، فضلاً عن أن (السلم) غير  محدد الفترة الزمنية، على العكس من (الهدنة). وبناء على ذلك، يمكن استيعابه كسلام دائم.

ويعرض "روبين" تفسيرين للدلالات الحقيقية للآية (61) من سورة (الأنفال)، أحدهما: (وإن جنحوا)  يتعلق بعبدة الأوثان. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الآية تم نسخها بنزول "آية السيف" المعلِنة لحرب شاملة على الكفار، وذلك استناداً إلى القاعدة الشرعية التى تقضى بأنه حال ورود آيتين تعارض إحداهما الآخرى، فإن الآية الأخيرة فى النزول على (محمد)صلى الله عليه وسلم - والتى يطلق عليها "الناسخ" - تنسخ الآية السابقة عليها والتى يطلق عليها "المنسوخ". ووفقاً للتفسير الثانى، فإن آية "السلام" تتعلق باليهود، وفى هذه الحال تظل قائمة بشرط دفعهم "الجزية" .

وتعرض آية أخرى وهى الأية (90) من سورة (النساء) موقفاً معتدلاً إزاء الكفار، حيث تشير إلى اتفاقيات بينهم وبين المسلمين: (إِلَّا ٱلَّذِینَ یَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقٌ أَوۡ جَاۤءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن یُقَـٰتِلُوكُمۡ أَوۡ یُقَـٰتِلُوا۟ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَیۡكُمۡ فَلَقَـٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ یُقَـٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡا۟ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَیۡهِمۡ سَبِیلا).

ومن الآيات التى يستخدمها مفكرو  التيار البراجماتى (الواقعى) والتى تبرر السلام مع غير المسلمين الآية (13) من سورة (الحجرات) التى تمنح شرعية لوجود شعوب أخرى:  (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیر)

ويشير عدد من الآيات فى القرآن الكريم إلى إبرام مواثيق ومعاهدات بين المسلمين والكفار كما في الآية (72) من سورة (الأنفال) التى تشير إلى المواثيق التى أبرمت مع المسلمين فى المدينة، كما تدعو إلى احترام الاتفاقيات مع غير المسمين، وإيثارها على مساعدة المسلمين خارج المدينة:  (إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمۡوالِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِینَ ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوۤا۟ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡض وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یُهَاجِرُوا۟ مَا لَكُم مِّن وَلَـٰیَتِهِم مِّن شَیۡءٍ حَتَّىٰ یُهَاجِرُوا۟ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ فَعَلَیۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰق وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیر) . وكذلك  الأمر   فى الآيتين  (3-4) من سورة (التوبة): (وَأَذان مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلنَّاسِ یَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِیۤء مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ وَرَسُولُهُۥۚ فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَیۡر لَّكُمۡۖ وَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُمۡ غَیۡرُ مُعۡجِزِی ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ثُمَّ لَمۡ یَنقُصُوكُمۡ شَیۡـٔا وَلَمۡ یُظَـٰهِرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَحَدا فَأَتِمُّوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ)، ومثال ذلك أيضاً الآية (7) من سورة (التوبة) التي تتساءل: : (كَیۡفَ یَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِینَ عَهۡدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦۤ إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِیمُوا۟ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ)

ومن المفسرين من ذهب إلى أن الآية (4) من سورة (التوبة) تشير إلى أن الإعلان عن إلغاء معاهدات الدفاع مع الكفار لا تنطبق على الأطراف الموقعة على المعاهدات ذات المدة الزمنية المحددة ، فطالما  لم ينتهك الكفار  تلك المعاهدات وجبت المحافظة عليها حتى نهاية مدتها. وفى المقابل، هناك من يذهب إلى أن المقصود من كلمة (مدتهم) هو مهلة الأشهر الأربعة التى أمهلها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم لكل المعاهَدين. وتُمنح هذه المهلة فقط لأولئك الذين لم ينقضوا المعاهدات مع النبى صلى الله عليه وسلم، فى حين أن أحد أحكام أولئك الذين نقضوا تلك المعاهدات هو الموت. أما الآية (7) من سورة (التوبة) فتناقش أمر الجماعات التى لم تناقشها الآية (4) من نفس السورة، فثمة من يذهب إلى أن هذه الآية كانت فى سياق صلح الحديبية الذي أُبرم بين (النبى)صلى الله عليه وسلم وقبيلة قريش عام 628 م، والذي يُلزِم المؤمنين بتنفيذ تعهداتهم طالما حافظت عليه قريش، وتنضوى على إدانة لأهل قريش الذين انتهكوا المعاهدة، وتحث المؤمنين على احترام تعهداتهم مع القبائل المشاركة فى الاتفاق وعلى الالتزام به.

ولنا أن نتساءل ههنا كيف نفسر التعارض بين آيات السلام وآيات الحرب، وخاصة بين آية "السلم" (61) من سورة (الأنفال) وآية "السيف" (5) من سورة (التوبة) ؟. فعلى ضوء هذا التساؤل يذهب عدد من المفسرين المسلمين إلى أنه يجب تفسير  آيات القرآن وفقاً لسياق الموقف الذى نزلت فيه، وخاصة الوضع  العسكرى للمسلمين فى ذلك الوقت. فتُوجه آية "السيف" – فى وجهة نظرهم – المسلمين إلى إلغاء الاتفاق المبرم عندما يتغير ميزان القوى الضعيف الذى أدى إلى إبرام ذلك الاتفاق. وهكذا فإن آية "السلم" قد نزلت عندما كان المسلمون قلة، ونزلت آية "السيف" عندما اشتدت قوة المسلمين ولم تعد هناك حاجة لوقف الحرب.

ومثل ذلك أيضاً تفسير  آية أخرى فى القرآن الكريم  تعارض آية "السلم" وهى الآية (35) من سورة (محمد): (فَلَا تَهِنُوا۟ وَتَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱلسَّلۡمِ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمۡ وَلَن یَتِرَكُمۡ أَعۡمَـٰلَكُمۡ).  فهذه  الآية تتحدث عن وجوب استجابة المسلمين لدعوة السلام ما داموا  فى وضع ضعف حتى تشتد قوتهم ، ولكن حال كونهم فى مركز قوى وجب عليهم تنفيذ أوامر الجهاد. وبناء على هذا التفسير فإن منفعة المسلمين تكمن فى إيجاد فرصة لإعادة ترتيب الصفوف لمواصلة الجهاد وتعزيز قدرات المقاتلين، الأمر الذى يبرر صنع السلام في حقيقة الأمر  .

وقد جرى جدل مشابه بين المفسرين حول الآيات المنضوية على اتفاقيات بيــــن المسلميــن وغيرهم، وحول أحاديث تحث على السلام في مقابل أحاديث تحث على الحرب.

ونتطرق الآن إلى عدد من المصطلحات الرئيسة فى مجال العلاقة بين المسلمين وغيرهم نحو: الجهاد والهدنة والصلح ودار السلام ودار الحرب ودار العهد.

- الجهاد - الحرب:

لقد تمت صياغة العلاقة بين المسلمين وغيرهم فى البداية كوضع مؤقت. ويصوِّر  فصل (السِّيَر) فى الشريعة (الذي يتناول العلاقة بين المسلمين وغيرهم) الإسلام على أنه كيان دولى قابل للتوسع بشكل مستمر، ولا يقبل إضفاء شرعية للتعايش مع كيانات غير إسلامية، إلا إذا دخلت تحت إمرته (كما هو الحال مع أهل الكتاب - النصارى واليهود) وعملت وفق منهجه السياسى والقانونى،   ومن ثم فعقيدة نشر الإسلام تذهب إلى وجوب دخول سائر البشر في هذا الدين أو  أن يكونوا تحت إمرته.

أما مصطلح (جهاد)  فمشتق من الجذر العربى (ج. هـ. د) الذى يعنى: جهد. والدلالة الرئيسة لهذا المصطلح هو السعى الحثيث صوب هدف ما. غير أن دلالته - فى كثير من الأحيان – تعنى القتال والجهاد ضد الكفار،  إلا أنه لم يرد فى القرآن الكريم بهذا المعنى إلا  فى عشر  آيات فقط من بين ست وثلاثين آية.     

ويُحَمِّلُ بعض المفسرين المسلمين هذا المصطلح عدة دلالات أخرى فى حالات أخرى هى:

1-      جهاد الإنسان لغرائزه وضعفه.

2-      مواصلة  تنفيذ أوامر الدين.

3-      البحث عن المعرفة الدينية.

4-      التمسك بتعاليم الإسلام.

5-      الدعوة لله وحشد المؤمنين.

وبمضى الوقت غلب تفسير هذا المصطلح الخاص بدلالة (القتال) على تفاسيره التى لا تنضوى على نزعة قتالية.

وهدف الجهاد من وجهة النظر التوحيدية السياسية هو فرض كلمة الله على العالم .  وتُقِر هذه العقيدة أن يكون الحكم بالموت قتلاً بالسيف جزاءً لآية جماعة إنسانية ليست على استعداد للخضوع والدخول تحت إمرة الإسلام، أى أن تكون من أهل الذمة (أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالإضافة إلى المجوس والصابئين).

والجهاد فى أصله غير مرتبط بالحرب فحسب، حيث اُستخدم هذا المصطلح لترويج دعاية دينية مثلما حدث فى الحروب الصليبية، غير أن غالبية المصادر الإسلامية تعاملت مع هذا المصطلح بمفهومه العسكرى ، إذ يرفض الإسلام النظر إلى الكيانات الدينية الأخرى كنظائر له فى المكانة، فحينما أبــرم المسلمون اتفاقيات وقــــف قتـــال مع الكفار، فإنهم كانوا دائمى السعي لعدم الاعتراف بهم.

ويرى بعض فقهاء الشريعة الإسلامية الكلاسيكية وعلمائها أن النظرة إلى الإسلام باعتباره الدين الحق الوحيد نظرة طبيعية، ومن ثم فشن حرب على الأديان الأخرى أمر منطقى لما فى عقائدها من ضلال    .

وبمرور الزمن فسر علماء الشريعة الجهاد على أنه (فرض كفاية)  يقع على عاتق الحاكم أو الدولة وجيشها وليس على المسلمين كأفراد. وهناك حالة واحدة فقط يتوجب فيها على كل مسلم سواء أكان  قادراً على الحرب أم  لا يزال صبياً، امرأة كانت أم شيخاً – المشاركة فى الجهاد كفرض عين، ألا وهى حالة هجوم العدو  بغتة  .

وإبان فترة الفتوحات الإسلامية أطلق فقهاء الشريعة الإسلامية على العالم غير الإسلامى (دار الحرب) ، أى المنطقة التى يتوجب على المسلمين المنتمين لـ (دار السلام) قتالها بغرض إخضاعها للحكم الإسلامى، ابتداءً بدعوة الكفار إلى الدخول فى الإسلام، وانتهاءً باستخدام السيف فى حالة عدم إذعانهم للأمر. ويجب التأكيد على أن هذا التقسيم لهذين العالمين وضعه فقهاء الشريعة الإسلامية ولم يظهر فى القرآن الكريم أو الحديث.

حقاً يتفرد الإسلام عن الأديان الأخرى فى استخدامه فكرة التوحيد لنشر الدين حتى ولو بالسيف. لكن  يجب ألا ننسى أنه فى أوروبا فى فترة العصور الوسطى شُنت حروب ذات طابع دينى، وأن الحروب الصليبية لاحتلال بيت المقدس التى استمرت من القرن الحادى عشر  إلى القرن الثالث عشر  كانت حروباً دينية صريحة. والأمر كذلك فى الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت فى القرن السادس عشر، وحرب السنوات الثلاثين فى القرن السابع عشر، ولكن تلك الحروب كانت نابعة أيضاً من مصلحة تحقيق سيطرة على الأرض. ولقد كان تقسيم الشعوب وفقاً لمرجعية دينية معروفاً كذلك فى ثقافات أخرى  . وفى اليهودية القديمة وجدت فكرة الحرب المقدسة لتنفيذ أمر توراتى صريح، مثل الحرب على (عماليق) الذى يعد عدواً روحانياً (لملاحقته شعب إسرائيل بقسوة بعد خروجه من مصر وتحركه فى الصحراء فى ظروف صعبة)، أو الحرب لاحتلال الأرض، مثل حرب (يهوشع) أو الحرب الدفاعية لصد اعتداء العدو.

- إرجـــاء الحـــرب:

إن عقيدة أسلمة المجتمع الإنسانى كله أو على الأقل إخضاعه تحت إمرة الإسلام تعتبر  الحرب وسيلة متواصلة يمكن إرجاؤها أو وقفها بشكل مؤقت فقط لاستجماع القوى ومواصلة القتال متى سمح الوضع بذلك، لذا فالكيان الإسلامى - من الأساس -  غير قادر على إبرام اتفاق سلام دائم. وبناء على ذلك، فإن اتفاق وقف القتال أو عدم الاعتداء يمكن إبرامه لفترة زمنية قصيرة ومحددة، وذلك فقط فى حالة الضعف أمام معسكر العدو . وثمة مجموعة من الظروف المحددة فى خمس نقاط تعد كل واحدة منها مبرراً شرعياً يجيز  للحاكم فى الإسلام  إرجاء الجهاد وهى.

1-      ضعف المسلمين عسكرياً.

2-      بُعد ميدان القتال عن المعكسر الإسلامى.

3-      السبب القهرى (النَّزْلَة)، خروج الأحداث عن سيطرة المسلمين.

4-      قلة السلاح والعتاد والمؤونة الغذائية وبخاصة الماء.

5-      التخوف من الهلاك إزاء  قوة  العدو المفرطة.

وهناك من يضيف لذلك أيضاً الانقسام السياسى والحرب الأهلية داخل الأمة الإسلامية، الأمر الذى  لا يُمَكِّنُها من الصمود فى حرب ضد عدو خارجى، و يعد هذا نوعاً من الأسباب القهرية المفروضة على المسلمين.

ويعبر كل ظرف من الظروف الخمسة السابقة عن تخوف من هزيمة نكراء فى الحرب يتعذر على المسلمين الإفاقة منها. وتبرر  هذه  الظروف إبرام اتفاق مع العدو استناداً لمبدأ الضرورة والاضطرار، غير أنه مع تبدل الأوضاع المؤقتة الداعية إلى وقف الجهاد عن طريق عقد اتفاق عدم اعتداء يتعين على المسلمين استئناف الحرب على الكفار وإخضاعهم أو إدخالهم تحت كنف الإسلام.

- الهدنة المؤقتة - وقف الاعتداء:

يشتق مصطلح (هدنة) من الجذر العربي (هـ.د.ن) بدلالة التهدئة أو السلام . ولم يرد هذا المصطلح فى القرآن. وهو يعنى إبرام اتفاق مكتوب أو شفاهى بين المسلمين وغيرهم، بمقتضاه يمتنع كل طرف من الاعتداء على الطرف الآخر  . وبالإضافة إلى مصطلح (هدنة) نجد كلمة أخرى مشتقة من ذات الجذر هى كلمة (مهادنة). وثمة ثلاثة مصطلحات أخرى تحمل دلالة مشابهة هى: موادعة - مسالمة – مصالحة .

ويتم التمييز بين نوعين من اتفاقيات السلام بناء على مدتها الزمنية والطرف الذى تُعقد معه، فالاتفاقيات المبرمة مع الكفار من عبدة الأوثان هى اتفاقيات مؤقتة، أما الاتفاقيات المبرمة مع (أهل الكتاب) ممن يقبلون بالإمرة الإسلامية أو  يدخلون منطقة إسلامية فهى اتفاقيات دائمة، لكنها ليست اتفاقات دولية، بل معاهدات ذات طابع شرعى داخلى فى نطاق الحكم الإسلامى . ولقد كان مصطلح (السلم) يعنى فى فترة العصر الوسيط اتفاق عدم اعتداء ترفق به شروط أخرى مختلفة يتم الاتفاق عليها بين الأطراف (كالشروط الخاصة بمجال التجارة مثلاً).

ويذهب (الشافعى) - أحد فقهاء الشريعة الإسلامية وعلى اسمه سُمى المذهب الشافعى (توفى عام 820م) -  إلى أن المسلمين ملزمون بجهاد غير المسلمين حتى إخضاعهم التام مالم تفرض الظروف إبرام اتفاق هدنة    . إذن فما هى دواعى وقف القتال والتوقيع على اتفاق كهذا ؟.

تتضح الإجابة على هذا السؤال من خلال مبدأين رئيسين من مبادئ الشريعة يستخدمان مسوغاً لإقرار الأحكام الشرعية، الأول: الضرورة القصوى، مثل ضعف المسلمين الشديد فى ميدان القتال، والثانى: منفعة المسلمين مثل استعداد الخصم لدفع الدية أو الجزية. ويُقَدَّمُ المبدأ الأول (الضرورة) على المبدأ الثاني (المنفعة). ونتيجة لهذه العقيدة الراسخة والخاصة بالجهاد- والمشار إليها آنفاً- فإن التوقيع على الهدنة يستوجب - بادئ ذى بدء - وجود حاجة مُلِحَّة للغاية، عندئذ فقط يتم دراسة أوجه المنفعة. وأحياناً ما تتجلى منفعة المسلمين فى امتناعهم عن حرب من شأنها أن تلقى عليهم بكارثة بسبب وضعهم العسكرى المتدهور. أما فى الوضع الطبيعى (الذى لا يكون فيه المسلمون تحت خطر الهزيمة) فلا يشتمل الاتفاق على شروط تتعارض مع مبادىء الإسلام، مثل الإبقاء على ممتلكات إسلامية في قبضة الكفار، وإعادة أسير مسلم للكفار إذا ما هرب من أيديهم، وإعادة امرأة مسلمة من أيدى الكفار  أو دفع (فدية) درءاً للتهديدات . غير أنه فى حالة التخوف من الهزيمة أباح فقهاء الشريعة الإسلامية التوقيع على اتفاق مع العدو  حتى ولو  انضوى على النيل من كرامة المسلمين على أمل تغير ذلك الوضع بمرور الوقت.

وتعد الموافقة على الهدنة مسئولية كبرى تقع على عاتق إمام المسلمين، الذى يتعين عليه دراسة البدائل بتريث وروية، بما فى ذلك التقدير الواعى للموقف فى ميدان القتال، وذلك بعد تشاوره مع قادة الجبهة. وعليه كذلك تقدير  ما  إذا كان عموم المسلمين قادرين على تحمل الصعاب طيلة فترة القتال عندما لا يكون النصر غير لائح في الأفق، فإذا ما رأى ذلك الإمام  أن النصر السريع على الأعداء بعيد المنال، عندئذ يكون مخولاً بإبرام اتفاق هدنة مع الكفار، بغية تمكين المسلمين من استجماع القوة واستئناف الجهاد فى وقت لاحق.

- مــدة الهـدنة:

تجيز  المذاهب السنية الأربعة الأولى فى الإسلام (الحنفية والحنابلة والشافعية والمالكية) الهدنة قصيرة الأمد تخوفاً من أن تؤدى الهدنة طويلة الأمد إلى تعود عموم المسلمين على الوضع الجديد وتخليهم تماماً عن فكرة استئناف الجهاد. ووفقاً للتراث التشريعى وما يتضمنه من أحداث تاريخية يتم التمييز – زمنياً - بين أربعة أنواع من الهدنة:     

1-      هدنة مؤقتة: تستمر بشكل عام أياماً معدودات، وتهدف إلى تمكين القوات الإسلامية من التقاط الأنفاس وتجديد مخزون عتادهم.

2-      هدنة قصيرة الأمد: تستمر حتى أربعة أشهر  قابلة للتجديد مرة أخرى.

3-      هدنة لمدة ست سنوات: وتعرف باسم  هدنة (السنوات المحدودة).

4-      هدنة طويلة الأمد مدتها عشر سنوات.

ويعد "صلح الحديبية" بمثابة الأصل بين أنماط اتفاقيات الهدنة المختلفة. وقد عُقد هذا الصلح فى عام 628م بين النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم وقبيلة (قريش). ويرد ذكره فى غالبية المصادر كاتفاق (صلح)(انظر تباعاً)، ويشار إليه فى عدد منها بوصفة اتفاق (هدنة). وقد تم إبرام هذا الاتفاق فى الأصل لمدة عشر سنوات. وعلى الرغم من أن الظروف قد وضعت نهاية له بعد سنتين من إبرامه، إلا أن مدة السنوات العشر تعد بمثابة الحد الأقصى الذى تبناه علماء كُثُر فى التشريع الإسلامى لاتفاقيات السلام مع غير المسلمين. وإنطلاقاً من كون الهدنة اتفاقاً مؤقتاً فى أساسها فقد قرر فقهاء (الشافعية) وجوب الإشارة إلى مدتها وإلا عُدَّت لاغية.

ويقوم تحديد الحاكم الإسلامى لمدة الهدنة بين القصيرة والطويلة على أساس تقدير الموقف العسكرى للمعسكر الإسلامى فى مقابل معسكر الخصم. فإذا ما كان المسلمون فى مركز  قوة فإن مدة الهدنة لا تزيد عن فترة تتراوح من أربعة أشهر  حتى عام، لكن فى حالة كون المسلمين فى وضع ضعف وخوف وتعرض للخطر، عندئذ يُعمل بالحد الأقصى للهدنة وهو عشر سنوات.

وتنقسم الآراء حول إمكانية تمديد المعاهدة لفترات أخرى مناظرة. فبناءً على رأى الإمام "الشافعى" - من القرن الحادى عشر (عبد الرحمن الفورانى) - يمكن تمديد الاتفاق لفترات متجددة، مدة كل فترة عشر سنوات، حيث يتم التوقيع على اتفاق تمديد لعشر سنوات أخرى فى نهاية كل عِقْد . وكان هذا هو الواقع المعيش فى فترة العصر الوسيط كما سيتضح لنا فيما بعد.

- الهدنة غير محددة الزمـن القابلـة للنقض وفقاً للظروف:

تقرر – كما أسلفنا القول- أن تكون الهدنة في أساسها محددة المدة الزمنية (على العكس من الاتفاق الدائم)، لكن الواقع العسكري والسياسي في القرن السابع قد ألقى بظلاله على من بلوروا العقيدة الإسلامية. وفى ظل هذا الواقع توقف الفاتحون فى فترة الأمويين عند (جبال طوروس)(شرق تركيا الآن) وأرمينيا، وواصلت الإمبراطورية البيزنطية تقدمها في القسطنطينية (اسطنبول). وبتوقف الفتوحات الإسلامية على أبواب الإمبراطورية البيزنطية عقد الخلفاء الأمويون (661-750) وخلفاؤهم العباسيون (750-1258) اتفاقيات محددة المدة الزمنية تم تمديدها من فترة إلى أخرى، وحافظوا عليها ردحاً طويلاً من الزمن أكثر من سابقيهم منذ أيام النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الأُول  . وفى ظل هذه الفترات الطويلة من الهدنة نشط التعاون بين البيزنطيين وحكام بنى أمية فى مجالات شتى .

وعلى ما يبدو  أن الواقع العسكرى والسياسى إبان توقف الفتوحات الإسلامية هو ما أدى ببعض فقهاء الإسلام إلى تبنى فكرة اتفاق الهدنة غير محددة الزمن. لكن لكى لا ينجرفوا بعيداً عن عقيدة الجهاد، فقد قرروا إمكان إلغائها مع تغير الأوضاع. ومثال ذلك اتفاق الهدنة الذى عُقد فى عام 637م  بين المسلمين ومصر البيزنطية، ذلك الاتفاق الذى مكّن المسلمين من التركيز فى فتوحاتهم ببلاد الرافدين. ولكن ما أن تحسن الوضع العسكرى لهم حتى خرجوا للحرب على مصر حتى قبل انتهاء مدة الاتفاق.

وقد أجاز فقهاء كبار فى ثلاثة من المذاهب الفقهية (عدا الشافعية) الهدنة لفترة غير محددة (الهدنة الأبدية  أو  المطلقة) بناء على رؤية الحاكم. فمثلاً، أشار (أبو حنيفة)(ت 767)  - مؤسس المذهب الحنفى المسمى على اسمه – أن مصلحة المسلمين فى وضع السلام أكثر منها فى وضع الحرب . وكذلك يذهب فقهاء (المالكية) إلى جواز إبرام اتفاقيات سلام غير محددة المدة بناءً على رؤية الحاكم. وفى مقابل ذلك، يعارض جمهور فقهاء (الحنابلة) الهدنة غير محددة الزمن، لكنّ منهم فقهاء كبار يؤيدونها، فعلى سبيل المثال، يستشهد أحد تلامذة "أحمد بن حنبل" مؤسس المذهب الحنبلى بقوله "يخول الحاكم الحق فى تمديد الهدنة لعشر سنوات، إذا كان فى ذلك منفعة للمسلمين" . ويجيز فقيه حنبلى آخر  هو (ابن قدامه – ت  1223) كذلك اتفاق الهدنة غير محددة الزمن، وناقش الإشكاليات المتعلقة بالحفاظ عليها  . ويعرض "ابن القيم الجوزية" - أحد فقهاء الحنابلة وكان يعيش فى دمشق (ت 1350) طريقة وسط بين إيجابيات الهدنة غير محددة الزمن وسلبياتها المتمثلة فى  الهدنة المطلقة والمؤقتة، أى اتفاق غير محدد الزمن، لكن يجوز نقضه فى أية لحظة (بما يشبه الشراكة التجارية).  فالفقهاء المسلمين - على ما يبدو- الذين  يجيزون  الهدنة غير محددة الزمن قد اقتدوا بالاتفاق الذى أُبرم مع اليهود والنصارى ممن دخلوا تحت إمرة الإسلام، وطبقوه على الكفار بشكل عام. وقد استخدموا (الهدنة) التي منحها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران لتبرير الاتفاق غير محدد المدة الزمنية. فلقد كان من المقرر استمرار ذلك الاتفاق حتى يضع الله له نهاية (حتى يأتى أمر الله).

إجراء نقض الهدنة:

قرر علماء الشريعة الإسلامية فى فترة العصر الوسيط أنه يمكن للمسلمين نقض الهدنة من طرف واحد عند تبدل الأوضاع أى عند زوال ضعفهم العسكرى، تلك الأوضاع التى كانت تعد السبب فى إبرام الاتفاق. ويُلقِى نقض الهدنة - مثل إبرامها- على عاتق الحاكم فى الإسلام مسئولية كبرى، حيث يتعين عليه دراسة كل تداعيات الأمر بتأنٍ وروية. ويطرح التراث التشريعى فى الإسلام تساؤلين رئيسين بشأن قضية تبرير اتفاق الهدنة هما: هل القوات الإسلامية مؤهلة لتحقيق نصر سريع على العدو؟ ، وهل جموع المسلمين المدنيين مستعدون لتحمل عبء استئناف الجهاد؟ .  فالتساؤل الثانى يشير  إلى التخوف من عدم حصول قرار نقض الهدنة على تأييد الجمهور. وهو بذلك ينم عن دراسة للواقع السياسى من قبل فقهاء العصر الوسيط.

وتؤكد المصادر الإسلامية أنه من غير الجائز للحاكم إلغاء الهدنة إلا أذا ما اطمأن من خلال دراسة واعية إلى أن المسلمين لديهم من القوة ما يُمَكِّنهم من  استئناف القتال. عندئذ يتم نقض الهدنة على مرحلتين، الأولى يصرح فيها الحاكم علانية بنيته فى نقض الاتفاق، أى  ينذر العدو  بذلك. وفى المرحلة الثانية يمكنه استئناف القتال، بيد أنه على أرض الواقع فإن مبدأ إعلام العدو  نقض الهدنة لـــــم تتـــم المحافظــــــة عليه دائماً نظراً لتلهف قادة الجيش الإسلامى على استئناف القتال  .

- الصلـح: مـن الهدنـة المؤقتـة إلى الاتفـاق طويـل الأمـد:

يعود أصل مصطلح (صلح) إلى الاتفاقيات التى أبرمت بين القبائل فى شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام. ويرد الجذر (ص.ل.ح) فى التراث الإسلامى القديم بدلالة صنع السلام (أى  إنهاء الحرب) أو (المصالحة)، وكذلك الأمر فى القرآن الكريم   ، فمن ذلك على سبيل المثال ما صنعه (النبى)صلى الله عليه وسلم من صلح مع المشركين فى يوم (الحديبية)، وما عقده "خالد بن الوليد" من صلح مع أهل دمشق  .

وقد استخدم مصطلح (صلح) فى العالم القديم لوصف الاتفاقيات المبرمة بين جماعات مختلفة، وكان لهذا المصطلح مفاهيم متعددة فى سياقات شتى.  فعلى سبيل المثال، هناك  جزء من الاتفاقيات التى أبرمها النبى(محمد)صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه مع الجماعات التى لم تكن قد دخلت الإسلام بعد  أو  مع الجماعات غير المسلمة بدأت باتفاق عدم اعتداء وانتهت باتفاق سلام غير محدد الزمن أُطلق عليه (صلح). ويجب التأكيد على أنه قد ساد اضطراب فى استخدام بعض المصطلحات، وذلك فى فترة تبلور  التشريع الإسلامى فى القرن الأول الهجرى. فعلى سبيل المثال، اُستخدم المصطلحان (هدنة) و(صلح) أحياناً للإشارة على اتفاقيات عدم الاعتداء أو السلام دون تمييز دقيق بينهما، ومن ثم يجب فهم كل مصطلح فى سياقه الخاص.

ففى صدر الإسلام كانت بالفعل العديد من الاتفاقيات التى أُطلق عليها مصطلح (صلح) اتفاقيات إخضاع لغير المسلمين، فباستسلام  العدو- سواء باتخاذه من البداية قراراً بعدم الدخول فى الحرب أو  باتخاذه قراراً بوقف الحرب بعد فترة من الدخول فيها وطلبه التوصل إلى اتفاق - يُعقد بين الأطراف اتفاق ينظم القوانين والقواعد التى تخضع لها الجماعة غير  المسلمة التى تُصنَّف كأهل ذمة تحت الحكم الإسلامى. والصلح  من وجهة نظر  المسلمين  مع غيرهم من غير المسلمين يعد شهادة على أن الإسلام يمنح السلام - فضلاً وليس حقاً – للعدو  المستسلم. والمثال  الذي تضربه المصادر الإسلامية على ذلك هو  اتفاق استسلام القدس عام 636م، ففى ذات العام أنزل الخليفة (عمر بن الخطاب) - وفقاً للتاريخ الإسلامى - المسيحيين من أهالى القدس منزلة (أهل الذمة)  .

واتفاق الصلح – بما يشبه الهدنة - هو بالفعل اتفاق لوقف أعمال الاعتداء بين الجماعات المتشاحنة حتى يستطيعوا  إدارة حياتهم فى سلام وأخوة.  ويميل علماء الشريعة الإسلامية فى العصر الحديث إلى إطلاق مصطلح (صلح) على اتفاقيات السلام طويلة الأمد غير محددة المدة الزمنية. وهدف (الصلح) بين المسلمين وغيرهم هو  إرجاء القتال بين الأطراف وإحلال علاقات سلمية طبيعية – موادعة - لفترة محددة.

- دار العهد بديلاً عن دار الحرب:

لقد تجاهل فقهاء الشريعة الإسلامية الكلاسيكية - الذين أطلقوا على الأراضى التى يوجد بها الكفار (دار الحرب) فى مقابل (دار السلام) - غالبية الاتفاقيات الأولى التى أبرمها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه مع جماعات مختلفة من الكفار، تلك الاتفاقيات التى منحت للكفار الشرعية فى مواصلة السيطرة على أراضيهم دون الدخول تحت إمرة الإسلام حتى دون دفع (جزية) للمسلمين أحياناً مقابل الاعتراف بأهليتهم القانونية والسياسية على الأقاليم التى يعيشون فيها وكذلك أهليتهم على رعاياهم . وهذا ما دفع الإمام (الشافعى) - وقد سبقت الإشارة إليه - إلى إضافة فضاء سياسى ثالث للدارين اللذين طرحهما الفقهاء قبله هو (دار العهد).

وقد أوضح الإمام (الشافعى) وجود مناطق توصل معها الإسلام إلى اتفاقيات غير محددة المدة الزمنية (ولا يمكن نقضها بأى حال من الأحوال). وبناء على ذلك، فقد خرجت من دائرة الحرب. هذا من جهة، لكنها من جهة أخرى لم تدخل فى الإسلام، وهذا يعنى أن الإسلام  قد مكَّن بعض الجماعات من الالتزام بقوانينها دون خضوعها لإمرته. ومن ثم، يكون لهذه الجماعات التى تمثل فئة ثالثة قوانين خاصة. وبناء على ذلك، فإن "دار العهد" هى منطقة لجماعة أو كيان غير إسلامى أبرم اتفاقاً مع المسلمين قبل أحداث اعتداء جرت بين كلا الكيانين أو بعدها، شريطة أن يدفع الكيان غير الإسلامى (الجزية) للمسلمين أو أن يتنازل لهم عن جزء من أرضه .

ولم يقبل جمهور الفقهاء من المذاهب الأخرى الذين جاءوا بعد (الشافعى) برأيه هذا، حيث ذهبوا إلى أن جماعات الكفار - التى لا تندرج تحت (أهل الذمة) - التى عقد معها المسلمون اتفاقاً دائماً والذى بمقتضاه يُسمح لهم بالالتزام بقوانينهم والمحافظة على سلطتهم فى الحيز الجغرافى والسياسى الخاص بهم كجزء من (دار الإسلام) مع دفع (الجزية) للمسلمين هى جماعات تندرج تحت فئة (أهل الذمة) تماماً مثل اليهود والمسيحيين والمجوس ممن يدفعون (الجزية). وفى مقابل ذلك، فالكفار الذين قبلوا بالاتفاق دون دفع الجزية، أو أولئك الذين اضطر المسلمون - نظراً لضعفهم العسكرى المؤقت - إلى دفع مبالغ مالية لهم لا يزالون في وضع حرب مع الإسلام. ونظراً لكون هذا الاتفاق مهيناً - على الرغم من إبرامه من قبل المسلمين -  فيتوجب نقضه حال اشتداد عود المسلمين وقدرتهم على العدو.

وقد استخدم فقهاء التشريع الإسلامى فى العصر الحديث مصطلح (دار العهد) كمنطقة للكفار معزولة عن (دار الحرب) ليقولوا  إن العالم غير الإسلامى ليس فى حالة حرب مع الإسلام. وبناء على ذلك، يتم تبرير إقامة علاقات سلام معه.

المصدر: מלחמה, שלום ויחסים בינלאומיים באסלאם בן־זמננו: פתוות בנושא שלום עם ישראל,צחק רייטר, מכון ירושלים לחקר ישראל, תשס"ח, 2008




 

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button