موقع يهتم بالدراسات السامية، ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودي

موقع يهتم بالدراسات السامية بشقيها اللغوي والفكري. ويولي اهتماما خاصا باللغة العبرية والثقافة اليهودية

إعلان الرئيسية



أ- خلفية سياسية:

لقد تم استقبال اتفاقية السلام – التى أبرمها الرئيس المصرى (محمد انور السادات) مع إسرائيل فى السادس والعشرين من مارس عام 1979 فى منتجع كامب ديفيد- بحالة من الغضب الشديد فى الدول العربية، وكذلك من قبل التيارات  الإسلامية المتشددة فى مصر التى رأت فيها اتفاقية استسلام من قبل مصر، واتفاق سلام منفرد يمثل خيانة للفلسطينيين ولدول المواجهة الأخرى مع إسرائيل.

وقد عارضت أيضاً   بعض الدوائر السياسية خارج مصر اتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية. ولقد كان جوهر ما وُجه لمصر من نقد يتمثل فى أن الاتفاقية التى وقَّع عليها رئيسها لم تكن اتفاقية منفردة لا تمثل عموم المصلحة العربية فحسب بل إنها تتعارض بالفعل مع صالح المسلمين، وأن التنازلات التى قدمها (السادات) هى تنازلات مجحفة للعرب، حيث ذهب المعارضون إلى أن ما قال به (السادات) من إعادة لحقوق العرب كاملة فى المستقبل القريب لا أساس له على أرض الواقع. فقد قال ولى العهد السعودى آنذاك (فهد بن عبد العزيز) إن القيادة السعودية مصرة على رأيها فى معارضة الاتفاقية، لأن ما عرضه الرئيس (السادات) ليس بمقدور  أى عربى قبوله، فالرئيس (السادات) يريد أن يسير  كل العرب على دربه. كنا نريد ذلك لو كان هذا هو السبيل الذى سيحقق آمال العرب. وقد رفض (فهد) كذلك موقف (السادات) من مبدأ الحصول على ما يمكن الحصول عليه، واتخذ موقفاً مغايراً يقضى بطلب كامل الحقوق أو عدم طلب أى شىء. ويضيف قائلاً : " عندما فاجأنا (السادات) بزيارته للقدس توقع كثير  منا أن ثمة اتفاقاً مسبقاً يضمن إعادة كافة الحقوق العربية، وإلا ما قام بالزيارة. لكن من خلال مسيرة المحادثات فى مراحلها المختلفة فهمنا أن ليست أية منفعة من ورائها. لقد توقعنا أن يستغل (السادات) تلك الحقيقة ويعلن اختباره لنوايا إسرائيل- قدر استطاعته- ثم يعود للصف العربى. لكنه واصل طريقه حتى توقيع الاتفاق، وقد تبين أنه اكتفى بأقل من الحد الأدنى اللازم لصنع سلام عادل------ فنحن لا نؤمن بأن سياسة (السادات) ستؤدى إلى إعادة الحقوق العربية كما عاد زاعماً، لذا سنعمل ما بوسعنا مع سائر الدول العربية حتى يغير موقفه------ وقد حاولنا منحه فرصة لذلك فى مؤتمر بغداد الأول، ولم نرد على الهجوم الذى شنته علينا الصحافة المصرية لأننا لا نؤمن بالمعارك اللفظية".

  وللعلم فقد قدم (فهد) - بعد ذلك بسنتين- خطة سلام شامل - من ثمانى نقاط- بين إسرائيل والدول العربية صارت فيما بعد خطة السلام السعودية المسماة الآن " مبادرة السلام العربية".

وثمة  نموذج آخر  لدولة عربية معارضة يمثله الموقف السورى، ويتجلى فيما ذكرته الدكتورة  (نجاح العطار)  وزيرة الثقافة والتوجيه القومى السورى آنذاك، فقد وجهت (العطار) -  فى مقال نشرته فى جريدة البعث السورية- نقداً لاذعاً للاتفاقية المبرمة بين مصر  وإسرائيل، وصورتها على أنها استسلام تام من قبل مصر. وكان لها نظرة بعيدة المدى فى تحليلها للاتفاقية، إذ اعتبرتها مؤامرة تهدف إلى تمكين الولايات المتحدة من الاستحواذ على بعض المواقف الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، حيث تقول " الآن وَقَعَتْ المؤامرة بعقد اتفاقية السلام بشكل منفرد، وهى استسلام تام من قبل نظام (السادات). فمصر  كانت قادرة على تحرير سيناء فى حرب اكتوبر لو  لم تُحَكْ مؤامرة - قبل ذلك- بين القيادة السياسية المصرية والولايات المتحدة وإسرائيل.  ووفقاً للاتفاقية تظل سيناء مأهولة باليهود لمدة ثلاث سنوات- وهى مدة الاتفاقية------. وكضمانة لذلك، ينشر  بها - على الدوام - السلاح الأمريكى الذى سيتم اجتلابه إليها، والذى لا يمكن استخدامه دون موافقة أمريكية-----".

   وقد ارتأت سوريا - التى يحكمها نظام بعثى علمانى- مهاجمة (السادات) عن طريق  التيار الإسلامى، انطلاقاً من وعى بقوة الإخوان المسلمين فى مصر، أولئك الذين يمثلون المعارضة للنظام. وقد فعلت ذلك عن طريق استخدام الفتوى الصادرة عام 1970 عن شيوخ الأزهر  - أى رجال الدين الرسميين فى مصر  - والتى تمت مناقشتها آنفاً فى الفصل الخامس، حيث نشرت صحيفتها الحكومية (تشرين) نص الفتوى مؤكدة أن علماء الأزهر عام 1970 قد تلونوا وأصبحوا مؤيدين للسلام مع إسرائيل.

أما النظام المصرى - الذى وجد نفسه مُهاجَماً سواء من قبل العناصر الإسلامية المتشددة داخل مصر  أو من قبل بعض دول عربية- فاضطر  إلى التصدى للرأى العام العربى والإسلامى، حيث بادرت القيادة المصرية بنشر سلسلة من المقالات فى كبرى الصحف الحكومية (الأهرام). ففى ذات اليوم الذى نشرت فيه صحيفة (تشرين) السورية فتوى علماء الأزهر  المذكورة  آنفاً (13 أبريل 1979) نشرت صحيفة (الأهرام) مقالاً بقلم (محمد حسن التهامى) - الأمين العام الأسبق لمنظمة المؤتمر الإسلامى  "1974-1975"  والتى تضم سبعاً وخمسين دولة إسلامية - حيث كتب (التهامى) - فى المقال الذى نُشر  فى ظاهره بمناسبة اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية فى مايو 1979 - يقول: " طريقنا صوب المنفعة والمصالحة يمر من خلال الأحداث السياسية التى بدأت فى التبلور  جدياً بعد احتلال بنى إسرائيل للقدس عام 1967، وبعد إحراقهم المسجد الأقصى عام 69 . أتحدث إلى إخوانى عن حزنى المتواصل منذ أن اغتصبت القدس من أيدينا وحتى يومنا هذا، ذلك اليوم الذى يأمل فيه مليار مسلم وعربى استعادة الحق المسلوب ----- "

ويستخرج (التهامى) من القرآن الكريم مبرراً للجهود المصرية الرامية إلى السلام ويعرض اتفاقية السلام كأمر إلهى: " ورد فى القرآن الكريم "وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ " ، وفى موضع آخر  من القرآن الكريم "  وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ" . فالسلام الذى نحن سائرون فى دربه ليس سلام استسلام، لكنه سلام عادل وفقاً لأوامر الله، حيث قال (الله)(عز وجل) لبنى إسرائيل: "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ".  ويتطرق  (التهامى) - تباعاً- إلى قضية القدس على افتراض أن اتفاقية السلام ستؤدى فى نهاية الأمر  إلى إعادة القدس إلى أيدى العرب. فعلى حد قوله اختارت مصر بالفعل طريقاً آخر غير الجهاد تستعيد من خلاله القدس إلى أحضان الإسلام والعرب، حيث أشار  إلى أن (السادات) قد وضع القدس نصب عينيه " وأعلن قرار مصر الأكيد فى إعادة القدس وتحريرها، وأنه لا أمل فى سلام بدون القدس" . وقد ردَّ (التهامى) أيضاً على النقد الذى وجهته الدول العربية لمصر  جراء توقيعها على اتفاق منفرد، وذهب إلى أن المنفعة الإسلامية والعربية هى ما تشغل مصر ، وأنها تستغل التحرك السياسى لتحقيق تلك المنفعة، حيث يقول " روجت أطراف أخرى فى الماضى شعار ثورة حتى النصر، وكان هذا هو شعار منظمة التحرير الفلسطينية، عندئذ قرر  المؤتمر الإسلامى الخروج إلى (الجهاد) لتحرير القدس، وكان هذا بعد نصر (رمضان)(حرب 1973)، إلا أن السير  فى هذا الطريق لم يدم بسبب مواقف وانتماءات متعددة------. عندئذ نادينا نحن بالخروج وخلق اتصالات مباشرة مع كل دولة على حدة، هكذا تستطيع كل دولة إنقاذ أرضها وحقها وسيادتها، فبعضنا سار  فى هذا الدرب، والقلة اعتبرت إنقاذ الأرض أملاً زائفاً-----".

وتهدف كتابات الأهرام عن فتاوى شيوخ الأزهر المصريين إلى خدمة احتياجات التعليم والإعلام على الساحة المصرية الداخلية. وقد رأى نظام (السادات) فى الساحة الدينية الإسلامية مجالاً خصباً للنضال من أجل إضفاء شرعية على اتفاقية السلام مع إسرائيل. ولهذا السبب - تحديداً- كان مقال (التهامى) - تلك الشخصية ذات المنصب الرسمى الإسلامى العام سابقاً - والذى برر الاتفاقية من الناحية الإسلامية. غير  أن النظام لم يكتفِ بذلك، بل واصل اهتمامه بنشر سلسلة من الكتابات فى صحيفة (الأهرام) بأقلام قيادات مشيخة الأزهر ووزير الأوقاف (وهو من قيادات الأزهر أيضاً فى الماضى) ممن ذهبوا إلى أن الاتفاقية تتواءم والشريعة. وقد تم نشر  أول مقال بعد ستة أسابيع من توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل كرد فعل على تعليق عضوية مصر فى مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية الذى عُقد فى مدينة (فاس) بالمغرب فى التاسع من مايو 1979.

  وغداة التعليق وفى العاشر من مايو 1979 نشرت (الأهرام) فتوى لقيادات مشيخة الأزهر  أكدت أن اتفاق السلام " لا يخرج عن الإطار الشرعى لانطلاقه من موقف قوة، وذلك بعد أن خاضت مصر حرب جهاد وانتصار". فمن هذه الناحية، ذهبت الفتوى إلى أن اتفاقية السلام مثلها مثل صلح الحديبية الذى عقده النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة من موقف قوة، وذلك عندما وقف على رأس جيش منتصر، وبناء على ذلك، كان قادراً على فرض إرادته. غير  أن هذه الرؤية  هى رؤية تبريرية قائمة على حقيقة غير صائبة. ففى حقيقة الأمر، كان الوضع العسكرى    لـ (النبى)صلى الله عليه وسلم ضعيفاً مقارنة بوضع أهل مكة، حيث يتم عرض (محمد)صلى الله عليه وسلم فى التراث الإسلامى على أنه قد قدم تنازلات ضخمة لا تتواءم ومكانته كرسول لله، كاضطراره للتنازل عن الهدف الذى خرج من أجله إلى مكة وهو " الحج"  وتأجيله لمدة عام بناء على طلب قبيلة قريش. وإذا ما عُدنا لموضوعنا نجد أن النظام المصرى قد تخلى عن المبدأ الشرعى الذى بمقتضاه يمكن التصالح مع العدو  وهو الضعف العسكرى للمسلمين فقط، وذلك لمواجهة المزاعم (المعاصرة) كالزعم القائل بقيام رئيس مصر بذلك الأمر من موقف ضعف، الأمر الذى ينضوى على إهانة.

وقد وجهت فتوى قيادات الأزهر نقداً للجهات الإسلامية المتشددة التى هاجمت اتفاقية السلام وصورت من يخالفونهم الرأى كجهلاء ليسوا فقهاء فى الشريعة. ومصر  - كما يتردد - هى إحدى قلاع الإسلام، ولذلك فمن صلاحيات رئيس الدولة دراسة ما إذا كان صنع السلام مع الأعداء سيعود بالمنفعة على الإسلام، إذ إن القرآن الكريم يأمر المسلمين بالتصالح مع العدو  إذا رأى الحاكم فى ذلك منفعة للمسلمين. وتتمثل تلك المنفعة فى هذا الموضع فى إعادة  الأراضى الإسلامية لأصحابها، على أن يعود جزء فى الحال وجزء يُؤجل لأجل آخر. وثمة طرح آخر انضوت عليه تلك الفتوى، لكنه لم يظهر بعد ذلك فى فتوى الشيخ (جاد الحق)، يتمثل فى أن اتفاقية السلام التى وقعتها مصر مع إسرائيل تدعو  أطرافاً إسلامية أخرى إلى الانضمام إليها وتحقيق منفعة منها، وبذلك تعود إليهم أراضيهم. وكذلك ورد فى الفتوى أن الاتفاقية تحافظ على حق الفلسطينيين فى تقرير المصير، ذلك المبدأ الذى تم قبوله على الساحه الدولية لأول مرة بفضل مصر. كما توضح الاتفاقية - كما يتردد- أن مصر لا تتهاون فى قضية عروبة القدس الشرقية وإسلاميتها فحسب، لكنها متمسكة أيضاً بالقدس باسم ملايين المسلمين. وقد دعا شيوخ الأزهر الحكام المسلمين وعلماء الدين فى الشعوب الإسلامية إلى الاتحاد " تأييداً للموقف المصرى". وكانت هذه الدعوة ذات هدف تبريرى- كما هو مفهوم- أمام الأطراف العربية التى ذهبت إلى أن مصر قد وقعت على اتفاقية سلام منفردة، وأنها قد لفظت سائر العرب. ومن الواضح أن المبررات السياسية قد استُخدمت كمادة خام فى تفسير  مبدأ منفعة المسلمين جراء التوقيع على اتفاقية السلام.


وبعد تعليق عضوية مصر  فى المؤتمر الإسلامى الذى عُقد فى مدينة (فاس) بالمغرب فى شهر مايو  من عام 1979 وجه (التهامى) كلاماً قاسياً بشأن هذا القرار، وقال فى حوار  له بصحيفة الأهرام نُشِرَ  بتاريخ 11/5/1979 " إن المجتمعين فى المؤتمر فى (فاس) عُمى عن رؤية الحقيقة".فقد ذهبوا إلى أن مصر  قد انحرفت عن مسار الإسلام،لذا يتوجب إخراجها من دائرة العمل الإسلامى والعربى، لكن عليهم ألا ينسوا مكانتها ومكانها فى بلورة السياسة الإسلامية، وكونها السند الحقيقى للعالم الإسلامى عبر التاريخ. ووفقاً لما ذكره (التهامى) فإن مكانة مصر  قد أقرها القرآن الكريم والأحاديث النبوية كذلك التى ورد بها " إذا فتحتم مصرا ----- فاتخذوا منها جنداً كثيراً، فإن جندها هم خير  أجناد الأرض".ويتساءل (التهامى): هل نغير حكم القدر؟ ، وهل نلغى ما ورد فى القرآن الكريم والحديث الشريف؟ ، وهل انتهى دور مصر فى إدارة مقدسات الإسلام؟ ، وهل إنهم (سائر الدول الإسلامية) قادرون على حمل راية المجد الإسلامى والخروج فى جهاد كما فعلت مصر عندما أدت رسالتها التاريخية. ويواصل (التهامى) رده على معارضى مصر فى هذا الحوار بقوله " إن القرار المتسرع الصادر عن المؤتمر ليس له أى أساس فى قوانين الإسلام، وليس من حق أحد اتخاذه، فمتخذونه أغبياء، وبعون الله سيفيقون". وقد أكد (التهامى) أن قرار  مؤتمر (فاس) بالخروج إلى "الجهاد" لتحرير  القدس ليس واقعياً. وفى مقابل ذلك، دعت مصر إلى اجتماع خاص يبحث خطة العمل لإعادة القدس قبل أن تفكر  أية دولة إسلامية أخرى فى ذلك الأمر على الإطلاق. وقد أعرب عن أمله فى أن تتوصل الدول العربية فى النهاية إلى نفس الاستنتاج الذى توصلت إليه مصر، وهو أن طريق الاتصلات السياسية هو الطريق الوحيد لإنقاذ القدس.

وبعد أسبوع من نشر  فتوى شيوخ الأزهر - بشكل علنى- نشرت صحيفة (الأهرام)  فى الثامن عشر من مايو 1979 مقالاً  لوزير الأوقاف المصرى الدكتور (والشيخ)(عبد المنعم النمر)  الذى استشهد بتفاصيل كثيرة من فتوى شيوخ الأزهر، وذهب إلى أن (النبى)صلى الله عليه وسلم قد احترم اتفاق صلح الحديبية حتى أخلَّ به الطرف الآخر. وذهب (النمر)  إلى أن علماء الدين مخولون بإيجازة إعلان الحرب إذا فُرضت على المسلمين لضرورة ومنفعة، وإيجازة إعلان السلام إذا كانت هناك منفعة فى ذلك. إلأ أن الأصل فى الإسلام فيما يخص العلاقات بين المسلمين وغيرهم هو السلام طالما لم يعتدِ عليهم الطرف الآخر، وهذا هو الرأى السائد شرعاً.  وما أن مرت أربعة أسابيع حتى نشرت (الأهرام)  فى 14/6/1979 فتوى من نفس التوجــه لمفتــى مصــر (جاد الحق على جاد الحق) . وقد دُونت هذه الفتوى فى السادس والعشرين من نوفمبر  لعام 1979 فى سجل الفتاوى الرسمى فى مصر -الفتاوى الإسلامية.

وقد أقرت فتوى مفتى مصر بأن الاتفاقية مع إسرائيل نابعة من أحكام الإسلام، وأن (السادات) قد حافظ على حقوق العرب، ووجه نقداً لما كُتب عن مصر بالخارج بشأن توقيعها على اتفاقية سلام منفردة. وقد أضاف الشيخ  (جاد الحق) كذلك " إن صلح الحديبية عاد بمنفعة كبيرة على الإسلام والمسلمين، وأنزل (الله) كذلك سورة (الفتح) التى صوَّرت الاتفاق كالنصر ، وذلك فى قوله تعالى " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً "،مما أدى فى نهاية الأمر إلى انتشار الإسلام. ولربما عارض صحابة (النبى)صلى الله عليه وسلم الاتفاق حتى فهموا المنفعة التى يدرها  فانصاعوا لأمر الله ورسوله. وفيما يتعلق بالاتفاق الحالى مع إسرائيل، فها نحن متفائلون وعلى أمل كبير  فى أن يُحَقِّق النصر الذى يستعيد أرضنا وكرامتنا، وكذلك يعيد القدس المقدسة والعزيزة لحضن الإسلام تحت كنف السلام". ويقوم مبدأ التبرير الصادر عن الجهات الرسمية على أن أوامر الجهاد لا تتعارض مع صنع السلام. حقاً، إن فرض الجهاد واجب حتى يأتى اليوم الذى يُفْرَض فيه حكم الإسلام على كافة أرجاء العالم، لكن ظروف الساعة وصالح المسلمين يقتضيان التوقيع على اتفاقية سلام. وفى المقابل تصدى النظام للنشاط المعارض من قبل جماعة الجهاد الإسلامى فى مصر  فاعتقل ألفاً وستمائة ناشط إسلامى. لكن ذلك لم يحل دون اغتيال (السادات)، ففى نهاية اكتوبر 1981 وأثناء مشاهدة العرض السنوى فى ذكرى نصر حرب اكتوبر اُغتيل رئيس مصر على أيدى جماعة الجهاد الإسلامى. وقد تم استيحاء فكرة الاغتيال من كتيب "الفريضة الغائبة" الذى كتبه مهندس فى السادسة والعشرين من العمر يدعى (عبد السلام فراج) ونشرته العناصر الإسلامية المتشددة، جاء به أن الحاكم المسلم قد أغفل الفريضة المهمة (الجهاد) ، وأن النظام فى مصر مثله مثل نظام "التتار" الكفار (كما حدد الفقيه التشريعى ابن تيميه فى زمانه فى القرن الرابع عشر). وقد نشر مفتى مصر - بعد اغتيال السادات- فتوى خاصة تصدت تماماً لمزاعم المتطرفين الإسلاميين الذين نشروا الكتيب، وذلك كجزء من إعلام السلطة ضد العناصر الإسلامية المتشددة.

أما عن (جاد الحق) - صاحب الفتوى الخاصة التى سيتم مناقشتها فى هذا الفصل- فقد درس فى الأزهر، وتخصص فى القضاء الشرعى، وعمل قاضياً ومساعداً لمفتى مصر. وبعد ذلك عُين مفتشاً فى المحاكم الشرعية ومستشاراً لمحاكم الاستئناف. وقد تولى منصب مفتى مصر  فى أغسطس 1978 تلك الفترة التى ساد فيها التوتر بين الدولة والجماعة الإسلامية المتشددة التى اغتالت الرئيس (السادات). وفى عام 1982 عُين وزيراً للأوقاف مكافأةً - على ما يبدو- على نشره الفتوى التى يَرُدُّ فيها على كتيب "الفريضة الغائبة" . وخلال السنوات الأربع التى عمل فيها مفتياً أصدر  1415 فتوى، منها 243 فتوى تم نشرها، معظمها مطولة وأكثرها أهمية تلك التى تناولت الموضوعات السياسية. وعلى الرغم من تأييد (جاد الحق)(المتوفى عام 1996) للسلام مع إسرائيل فقد عُدَّ - على الدوام- محافظاً على آرائه وفتاواه، وبعد ذلك أبدى مواقفاً مناهضة للتطبيع معها.

أ‌-        نص الفتوى:

- اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وأثرها

- المبادئ:

1-        الإسلام دين الأمن والسلام.

2-        جنوح العدو للسلم أثناء الحرب واجب القبول.

3-        المعاهدات بين المسلمين وغيرهم جائزة ويجب الوفاء بها ما لم يطرأ ما يقتضي نقضها.

4-        بدء المسلمين بالصلح جائز  مادام ذلك لجلب مصلحة لهم أو لدفع مفسدة عنهم.

5-        قبول المسلمين لبعض الضيم جائز  ما دام في ذلك دفع لضرر  أعظم.

6-        نصوص اتفاقية السلام وملحقاتها لم تضيع حقاً ولم تقر احتلالاً.

7-     ما كان لقلة من العلماء أن تنساق أو تساق إلى الحكم بغير  ما أنزل الله وتنزل إلى السباب دون الرجوع إلى أحكام شريعة الله.

8-     صلح الحديبية كان خيراً وبركة على المسلمين, وفي صلحنا المعاصر مع إسرائيل نتفاءل ونأمل أن يكون فتحاً نسترد به الأرض ونحمي العرض, وتعود به القدس عزيزة إلى رحاب الإسلام وفي ظل السلام.

- سؤال:

ما حكم اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وأثرها ؟.

- جواب:

كان الإسلام ولا زال دين الأمن والأمان والسلام والسكينة والصفاء والمودة والإخاء وليس دين حرب أو شحناء أو بغضاء, لم يستخدم السيف للتحكم والتسلط إنما كانت حروبه وسيلة لتأمين دعوته, وقد أمر القرآن الكريم المؤمنين بالامتناع عن القتال إذا لم تكن هناك ضرورة, ففي كتاب الله سبحانه: (إِلَّا ٱلَّذِینَ یَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقٌ أَوۡ جَاۤءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن یُقَـٰتِلُوكُمۡ أَوۡ یُقَـٰتِلُوا۟ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَیۡكُمۡ فَلَقَـٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ یُقَـٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡا۟ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَیۡهِمۡ سَبِیلا) ، وقوله سبحانه: (وَإِن جَنَحُوا۟ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ).  

ومن تعاليم الإسلام للمسلمين أن يردوا كل ما يختلفون في معرفة أحكامه إلى الله ورسوله قال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ ذَلِكَ خَیۡر وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا).

وأكد الله سبحانه هذا المبدأ بوجوب الإذعان لحكمه وحكم رسوله فى قوله فى القرآن: (إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذَا دُعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ أَن یَقُولُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ).

وها نحن العرب قد اختلفنا مع اليهود, وقامت الحرب بيننا سنوات ثم قامت لهم دولة اعترف بها المجتمع الدولي, وظاهرتها أقوى دول العالم وعقدنا معها اتفاقية الهدنة بعد الحرب الأولى بيننا سنة 1948 ثم وقعت حرب سنة 1956 مع مصر وقامت هدنة أخرى ثم حرب 1967 حيث احتلت إسرائيل جميع أراضي فلسطين، وزادت فاحتلت سيناء من أرض مصر والجولان من سوريا، ولم ترض مصر بهذه الهزيمة وما استكانت, بل استعدت وجندت أبناءها وعبأت مواردها ثم ضربت ضربة رمضان المنتصرة فاستردت بها هيبة العرب واضطرت معها إسرائيل أن تستغيث بنظرائها.

وفي أوج النصر العسكري عرض رئيس مصر السلام أملاً في أن يسود هذه المنطقة الأمن وأن يسترد العرب أنفاسهم من حرب طالت واستطالت دون أن يبدو في أفقها نهاية. واستطاع رئيس مصر أن يسترد أجزاء كبيرة من سيناء سلماً فوق ما استرده بالحرب ثم كانت مبادرته ونداؤه بالسلام في القدس وفي حضور الخصوم ليشهد عليهم العالم إن أبوا  الدخول فيه وصبر  وجادلهم بالحجة والمنطق كما جالدهم بقوة السلاح وعزم الرجال حتى جنحوا للسلم وارتضوه عهداً تنحل به هذه الأزمة وقبلوا بحرب رمضان  أن يرحلوا عن الأرض التي احتلوها فوق العشر سنوات ورضوا عن الغنيمة بالإياب والمسالمة.

فما حكم الله ورسوله في هذا الصلح الذي تم بين مصر وإسرائيل بعد تلك الحروب ؟. ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)

إننا إذا نظرنا في كتاب الله قرآنه الكريم نجد أنه قد قرر العلاقة الأساسية بين الناس جميعاً هي السلم نجد هذا واضحاً في قوله تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیر). وقوله سبحانه: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ واحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِیرا وَنِسَاۤء وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبا)

وبهذا النداء للناس بوصفهم بني الإنسان كان السلم هو الحالة الأصلية التي تشيع المودة والتعاون والخير  بين الناس.

وكانت الدعوة إلى غير المسلمين بأنهم إذا سالموا كانوا سواء مع المسلمين في نظر  أحكام الإسلام لأنهم جميعاً بنو الإنسان, ولم يجز  الإسلام الحرب إلا لعلاج حالة طارئة ضرورية, وإذا كانت هذه هي منزلة الحرب في الإسلام فإنه يقرر بأنها إذا وقعت وجنح أحد الطرفين المتحاربين إلى السلم وجب حقن الدماء، ونرى هذا واضحاً وجلياً في قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُوا۟ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ وَإِن یُرِیدُوۤا۟ أَن یَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِیۤ أَیَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِینَ).

هذا حكم الله أنزله إلينا, وهو يجيز  لنا أن نتعاهد ونقيم المعاهدات مع غير  المسلمين إبقاء على السلم أصلاً  أو  رجوعاً إليه بوقف الحرب وقفاً مؤقتاً بمدة أو وقفاً دائماً، كما يجيز  أن تتضمن المعاهدة مع غير المسلمين تحالفاً حربياً وتعاوناً على رد عدو  مشترك.

قال القرطبي: إن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون إذا احتاجوا إليه, وقد صالح (رسول الله) صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم, وهادن قريشاًً عشرة أعوام حتى نقضوا عهده ثم قال: وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة وبالوجوه التي شرحناها عاملة. ثم نقل قول الإمام (مالك) رضي الله عنه فقال: يجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة.

وفي التعقيب على تفسير الآيتين 89 , 90 من سورة النساء حيث انتهت الأخيرة بقوله تعالى: (إِلَّا ٱلَّذِینَ یَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقٌ أَوۡ جَاۤءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن یُقَـٰتِلُوكُمۡ أَوۡ یُقَـٰتِلُوا۟ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَیۡكُمۡ فَلَقَـٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ یُقَـٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡا۟ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَیۡهِمۡ سَبِیلا). قال القرطبى: ص309 ، جـ5: في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل السلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين.

وفي منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار وشرحه نيل الأوطار للشوكاني جـ8، ص39 في غزوة الحديبية بعد أن نقل الأحاديث في شأنها: أن مصالحة العدو ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للحاجة وللضرورة دفعاً لمحظور أعظم منه.

وإذا تتبعنا سيرة (الرسول) صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده, نجد أنهم قد تعاهدوا مع غير المسلمين ولم ينقضوا عهداً عقدوه إلا أن ينقض من الغير, ولعل فاتحة عهود (الرسول) ومعاهداته كان العهد مع يهود المدينة وتحالفه معهم ثم تعامله وصحبه اقتصادياً, ولقد ظل وفياً بهذا الوعد والعهد حتى نقضه اليهود فانتقض, وصلح الحديبية وشروطه مشهور واعتراض الصحابة عليه, كل ذلك فعله (رسول الله), ولنا فيه القدوة ولأنه فعل ما فيه المصلحة للمسلمين, ولقد عاهد (خالد بن الوليد) أهل الحيرة وصالحهم, وصالح (عمر بن الخطاب) أهل إيلياء،وكان يستدعي الزعماء غير  المسلمين ويشاورهم ويستأنس بآرائهم كما فعل عندما أراد تنظيم الطرق بعد فتحها, وكما استشار  (المقوقس) عظيم القبط في مصر بعد الفتح.

وقد عقد الفقهاء المسلمون على اختلاف مذاهبهم الفقهية أبواباً في كتبهم أبانوا  فيها أحكام المهادنة والمصالحة مع غير المسلمين, واتفقت كلمتهم على أن لرئيس الدولة المسلمة أن يهادن ويصالح محاربيه من غير المسلمين، ويوقف الحرب معهم مادام في هذا مصلحة للمسلمين, واستندوا في هذا إلى صلح الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عام الحديبية.

وأضاف الفقهاء قولهم: ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيراً للمسلمين لأن المقصود هو دفع الشر الحاصل بالحرب.

بل إن فقهاءالشيعة الإمامية صرحوا بهذا في كتبهم. ففي كتاب المختصر النافع في فقه هذا المذهب جـ1 ص 112 في كتاب الجهاد: وإن اقتضت المصلحة المهادنة جاز، لكن يتولاها الإمام ومن يأذن له.

ويقول الفقيه (ابن القيم) في كتابه زاد المعاد جـ2 ص 148: ولما قدم (النبي) صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه, فقابل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى.

ثم قال فى ص200 فى فقه صلح خيبر: وفي القصة دليل على جواز عقد الهدنة مطلقاًً من غير توقيت بل ما شاء الإمام ولم يجئ ما ينسخ هذا الحكم البتة, فالصواب جوازه وصحته.

وقد نص عليه (الشافعي) في رواية المزنى, ونص عليه غيره من الأئمة. ويقول العلامة (ابن تيميه) فى كتابه " الاختبارات ص 188 فى باب الهدنة : ويجوز عقدها مطلقاً ومؤقتاً، والمؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به ما لم ينقضه العدو,                   ولا ينقض بمجرد خوف الخيانة في أظهر قولى العلماء، وأما المطلق فهو عقد جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة.

 - أسس المعاهدات (بين المسلمين وغيرهم) - فى الإسلام:

حينما نطالع أقوال علمائنا في تفسير  آيات القرآن الكريم وأحاديث (رسول الله) صلى الله عليه وسلم في شأن الحرب والصلح, ونطلع كذلك على ما نقله الفقهاء في هذا الشأن نرى أنهم قد استوجبوا توافر  الأسس التالية لقيام المعاهدات مع غير  المسلمين شرعاً.

§     الأول: مادل عليه قول (الرسول) صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وهذا مفاده أنه يتعين على ولي أمر المسلمين الذي يتعاهد مع غير المسلمين ألا يقبل شرطاً يتعارض صراحة أو دلالة مع نصوص القرآن الكريم, محافظة على سمة الشريعة العامة واحتفاظاً بعزة الإسلام والمسلمين قال تعالى: (یَقُولُونَ لَىِٕن رَّجَعۡنَاۤ إِلَى ٱلۡمَدِینَةِ لَیُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِینَ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ لَا یَعۡلَمُونَ).

ومثال الشروط الباطلة أن تتضمن المعاهدة التحالف مع غير المسلمين ضد المسلمين أو  التعهد بمقتضاها بالقعود عن نجدة المسلمين عند الاعتداء على ديارهم وأموالهم.

§ الثاني: تحديد الشروط في المعاهدات بينة واضحة على مثال المصالحات التي عقدها (الرسول) صلى الله عليه وسلم, فقد كانت محددة في الحقوق والالتزامات المتبادلة بين المتعاقدين، وذلك حتى لا تكون وسيلة للغش والخداع واستلاب الحقوق.

§     الثالث: أن تعقد المعاهدة في نطاق التكافؤ  بين طرفيها, فلا يجوز  لولي أمر المسلمين أن يعاهد ويصالح تحت التهديد, لأن مبدأ الإسلام التراضي في كل العقود.ومسالمة المسلمين لمخالفيهم في الدين أمر  يقره الإسلام, فمن المبادئ العامة التي قررتها الشريعة في معاملة أهل الكتاب تركهم وما يدينون والمنع من التعرض لهم متى سالموا، بل والتسوية بينهم وبين المسلمين في الحقوق والواجبات العامة. وأجازت مواساتهم وإعانة المنكوبين وأباحت الاختلاط بهم ومصاهرتهم, وما أباحت قتالهم إلا رداً لعدوان قال تعالى: (كَیۡفَ یَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِینَ عَهۡدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦۤ إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِیمُوا۟ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ). وقال سبحانه: (ٱلۡیَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حِلّ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِینَ غَیۡرَ مُسَـٰفِحِینَ وَلَا مُتَّخِذِیۤ أَخۡدَانوَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلۡإِیمَـٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ).

وكان من أوامر الإسلام الوفاء بهذه المعاهدات إذا انعقدت بشروطها داخلة في نطاقه غير خارجة على أحكامه وحافظ عليها الطرف الآخر  ولم تنفذ ظروف انعقادها, وهذا هو  القرآن الكريم يقول:  (وَأَذان مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلنَّاسِ یَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِیۤء مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ وَرَسُولُهُۥۚ فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَیۡر لَّكُمۡۖ وَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُمۡ غَیۡرُ مُعۡجِزِی ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ثُمَّ لَمۡ یَنقُصُوكُمۡ شَیۡـٔا وَلَمۡ یُظَـٰهِرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَحَدا فَأَتِمُّوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ) ويقول فى شأن توقع الخيانة من المعاهدة دعوة إلى اليقظة والحذر: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِیَانَة فَٱنۢبِذۡ إِلَیۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَاۤءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡخَاۤىِٕنِینَ).

ذلك حكم الإسلام في التعاهد والمصالحة, بل والمحالفة مع غير المسلمين يقر المعاهدات التي تضمن السلام المستقر وتحفظ الحقوق, وهو في ذات الوقت ينهى عن خيانة العهد ويأمر بالوفاء بالوعد, فالعلاقة بين الناس في دستور الإسلام علاقة سلم حتى يضطروا إلى الحرب للدفاع عن النفس أو للوقاية منها, ومع هذا يأمر الإسلام بأن يكتفي من الحرب بالقدر الذي يكفل دفع الأذى, ويأمر كذلك بتأخيرها ما بقيت وسيلة إلى الصبر والمسالمة.

ولم يجعل الإسلام الوفاء بالعقود والعهود من أعمال السياسة التي تجوز فيها المراوغة عند القدرة عليها, بل جعله أمانة من الأمانات واجبة الأداء يكاد الخارج عنها أن يخرج عن الإسلام, بل ويخرج عن آدميته ويصبح بهذا فى عداد السائمة قـــال تعـالى: (هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ). وبعد: فإن الإسلام صاغ الحياة البشرية في نطاق قوله تعالى: (وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِیۤ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِیرمِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِیلا).

هذا التكريم للإنسان, بغض النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه أعاد إلى فكر  الإنسان وقلبه أن الناس جميعاً بنو  آدم وحواء جعلهم الله شعوباً وقبائل ليتعارفوا, وأرسل إليهم الرسل لهدايتهم من الضلال, حتى كان الإسلام خاتماً لجميع الرسالات يحوي كتابه ما حملته الكتب السابقة عليه منقياً عقيدته وعبادته وتشريعه مما لم يعد ملائماً لدين الله الخالد إلى يوم الدين.

ثم حث الإسلام على الدعوة إلى  (الله) بالمنطق والعقل (وليس بحد السيف), فجعل توحيد  (الله) أساساً تتعاون في ظله كـل الديانات قـــال تعـالى: (قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ كَلِمَة سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَقُولُوا۟ ٱشۡهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ).ووجه القرآن الكريم (رسول الله) محمداً صلى الله عليه وسلم لنمط الدعوة المطلوب فقال: (ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَـٰدِلۡهُم بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِیلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ).

وفى نطاق هذا الاتجاه والتوجيه, عقد (الرسول) صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة مهاجراً معاهدة بين المسلمين واليهود وباقي الأقليات التي كانت تساكنه في المدينة وما حولها, رسم بها سبيل دولة الإسلام في التعاون المشترك مع مواطنيها وجيرتها من أهل الأديان الأخرى, وهذه المعاهدة التي قد نسميها بأسلوبنا المعاصر (معاهدة دفاع مشترك) يرشدنا فقهها إلى أن نسلك هذا السبيل ونقتدي بها ما دام فى مثلها مصلحة للمسلمين.

ولقد كان من آثار هذه المعاهدة - كما سبق القول - التعاون المالي والاقتصادي بين جميع القاطنين في المدينة وما حولها دون نظر  إلى الاختلاف في العقيدة والدين.

والإسلام يضع بذلك إطاراً للتعايش بين بني الإنسان على اختلاف مللهم ونحلهم بهذا الوصف الإنساني, ويخاطبهم به داعياً إياهم للتراحم والتعاطف والتساند في الشدائد والملمات, ثم يخص المسلمين بتوجيه أوفى وتوصيف أوسع وأسمى, فيجعل أُخوتهم الدينية أعلى نسباً وأقوى لحمة من كل الأنساب والأحساب التي يتفاخرون بها, ويضع لهم نماذج نقية لما يجب أن يأخذوا أنفسهم به فقـــال تعــالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡیَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَ وَلَاۤ ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ یَبۡتَغُونَ فَضۡلا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضْواناۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُوا۟ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُوا۟ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوانِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ) ، وقال جل شأنه: (وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡض یَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَیُطِیعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ سَیَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیم) ، وقال أيضاً: (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّة یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ).

بهذا المنطق كان توجيه القرآن الكريم للمسلمين إلى أحسن السبل للتعاون وتنقية المجتمع والحفاظ على مصالح المسلمين. وبنفس المنطق يحدد (الرسول) صلى الله عليه وسلم المسئولية ويضعها على عاتق أولياء الأمور كل فى موقعه فيقول:(كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته, الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته) ويقول: (ما من أمتى أحد ولى من أمر  الناس شيئاً لم يحفظهم بما يحفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة...).

ومن هذا يبين مدى مسئولية رئيس الدولة في الإسلام, وأن عليه أن يحفظ الرعية مما يحفظ به نفسه, لأنه قد التزم العمل لمصلحتها وفي نطاق هذه المسئولية وفي خضم نزاع العرب وإسرائيل وفي ظلال هزيمة سنة 1967 التي لحقت بالعرب كل العرب فنكَّست رؤوسهم, خطَّط رئيس مصر  لرفع هذا العار وحاربت مصر في رمضان، وكان النصر من عند الله للمؤمنين الذين رابطوا وجاهدوا حتى محو  خزي العار ووضعوا أكاليل الغار, ثم كانت تلك النظرة الثاقبة الفاحصة للمجتمع الدولي وموقفه من النزاع, هذه النظرة التي تمثلت في مبادرة السلام في نوفمبر سنة 1977م, السلام المطلوب سلام العزة ومن موضع القوة لا من موقع الضعف والهزيمة, وجاهد رئيس مصر وفاوض وكافح حتى سلم الخصم أو استسلم بعد إذ رأى مفاوضاً قوى الحجة ثابت الجنان متمسكاً بأرض العرب كل العرب ومقدسات المسلمين لم يفرط في حق ولم تلن عزيمته, بل كان صابراً ومثابراً للوصول إلى غاية الطريق بعد أن بدأ بخطوات رشيدة شديدة, ومازال يهدف إلى الغاية ويحث الخطى حتى يصل الحق إلى أصحابه بعون من الله وتأييده, قال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ).

إذا عرضنا اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل على قواعد الإسلام التي أصلها القرآن وفصلتها السنة, وبينها فقهاء المذاهب جميعاً على نحو ما أجملنا الإشارة إليه نجد أنها قد انطوت تحت لواء أحكام الإسلام.

فهي قد استخلصت قسماً كبيراً من الأرض التي احتلتها إسرائيل في هزيمة سنة 1967م بما فيها وعليها من مواطنين عادت إليهم حريتهم وثروات نستفيد بها بدلاً من أن يستنزفها الخصوم.

فهل استرداد الأرض والثروة مما يأمر به الإسلام أو مما ينهى عنه؟، وهل في هذا مصلحة محققة للمسلمين أو شر  ماحق لاحق بهم؟ ، وهل في عودة المواطنين التي تحررت أرضهم إلى دولتهم ترعى شئونهم من تعليم وصحة ودعوة وتجارة وكل مسئوليات الدولة نحوهم, هل هذا مما أمر به الإسلام أو مما نهى عنه؟.

حين نعرض هذه الاتفاقية في ضوء مسئوليات الحاكم المسلم نجد أن رئيس مصر قد نصح للأمة وقام بالمسئولية, فحافظ على الرعية حفاظه على نفسه, حارب حين وجد ألا مندوحة من الحرب بعد أن استعد وأعد, وفاوض وسالم حين ظهر  ألا مفر من السلم, وأنه يستطيع الوصول إلى الحق والحصول عليه سلماً لا حرباً. والإسلام يقرر أن الحرب ليست حرفة ولا غاية وإنما هي ضرورة دفاع  أو وقاية, وكما قال الرسول الأكرم: ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله) .

أي أن الله سبحانه وتعالى يحب لين الجانب في الفعل والقول, كما يحب الأخذ بالأيسر الأسهل في أمور الدين والدنيا ومعاشرة الناس, فإذا استعصت الحرب كوسيلة لاسترداد الحق, وتيسر السلم أفلا يكون هو الأول والأولى؟.

اللهم إن السلام تحية الإسلام وخلق الإسلام وصمام أمنه وأمانه ويتمثل هذا في قول (رسول الله) صلى الله عليه وسلم: ( إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأماناً لأهل ذمتنا) وإنما  كانت تحية المسلمين بهذا اللفظ للإشعار بأن دينهم السلام والأمان وأنهم أهل السلم محبون للسلام.

بقى أنه قد يقال: إن مصر  انفردت بالصلح مع إسرائيل وخرجت بذلك عن تعاهد العرب على حل جماعي, ولكن هذا القول لا يلتقي مع الواقع, واقع الاتفاق الذي تم والخطوات المترتبة عليه, فإن العرب متفقون على حل سلمي بعد أن استحالت الحرب للظروف الدولية التي لا يمكن الإغضاء عنها, فإذا  تقاعس بعض العرب عن السعي إلى الحل السلمي دون سبب ولا سند, كان على من يستطيع كسب الموقف السباق إليه وصولاً للغاية المرجوة, والأمر موكول إلى القدرة على الحركة, فمن استطاع تقدير الأمور وارتباطاتها الدولية, ووجد من نفسه القدرة على استخلاص الحق, كان له بل كان عليه أن يسعى إليه, لأن هذه مسئولية ولي أمر المسلمين يعمل لصالح الجماعة ويحافظ عليها.

وإذا كانت نصرة المسلم للمسلم واجبة (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقد كان واجب الحكام العرب بل المسلمين أن ينصروا رئيس مصر وهو يكافح وينافح في سبيل استرداد الأرض والمقدسات, لا أن يخذلوه ويقيموا العراقيل في سبيله بينما هو يعمل لصالح الجميع. (المسلمون يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم).

حين نستعرض نصوص اتفاقية السلام وملحقاتها ونعرضها على القرآن والسنة, لا نجد فيها ما ينأى بها عن أحكامها إذ لم تضيع حقاً وما أقرت احتلال أرض وإنما حررت واستردت.

وما دامت هذه الاتفاقية قد أفادت المسلمين ووافقت مصلحتهم فإنه لا يليق بمسلم أن يبخسها حقها من التقدير, قال تعالى: (وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ أَخَاهُمۡ شُعَیۡباۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۖ قَدۡ جَاۤءَتۡكُم بَیِّنَة مِّن رَّبِّكُمۡۖ فَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ وَلَا تَبۡخَسُوا۟ ٱلنَّاسَ أَشۡیَاۤءَهُمۡ وَلَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَاۚ ذَلِكُمۡ خَیۡر لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ).

بل إن الغض من شأنها والغش في بيان أهدافها وآثارها لا يليق بمسلم, لأن من واجبه بحكم القرآن والسنة أن يشد من أزر  من ثابر وبذل الجهد, بل غاية الوسع في استخلاص الحقوق التي لولا حرب مصر في رمضان لصارت نسياً منسياً, ولصارت سياسة الأمر الواقع واللاسلم واللاحرب قانوناً يقضي به على رقاب العرب, وتضيع في ظلاله حقوقهم ولكن الله قيض خير  أجناد الأرض وشد من عزمهم فكانت رمية الله هي رمايتهم, فصعق العدو من بأسهم بعد أن أخذوا بتلابيبه وسر الصديق بنصر الله.

ولعلنا نُذَكِّر الأخوة المسلمين بوصايا (الرسول) صلى الله عليه وسلم بمثل قوله (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، ولا إيذاء بين المسلمين بقول أو فعـل (المسـلم من سلم المسلمـون من لسانه ويده).

ويقول في ختام حديث طويل يأمر فيه بالفضائل (فـإن لم تقدر  فدع النـاس من الشر  فإنها صــدقة تصـدقت بها عـلى نفسك).

وبعد: فإنه لا بد من كلمة وجيزة أوجهها لعلماء المسلمين في كافة أنحاء الأرض على اختلاف جنسياتهم السياسية. هي: أن الله وكل إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قـــال جـل شـــأنه : (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّة یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ) ، وقال:  ( وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّة فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَة مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَة لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ).

هذا هو  واجب العلماء الذين سماهم فقهاء الإسلام أهل الحل والعقد أهل العلم والبصر  بأمور الدين والدنيا كل ذي خبرة في ناحية من نواحي الحياة.

علماء المسلمين قد فاه بعضهم بما ليس حكماً لله تعالى ولا لرسوله, بما ليس نصحاً لله ولا لرسوله ولا لأئمة المسلمين وعامتهم, إرضاء للساسة الذين  لا يحتكمون إلى الله ورسوله قال تعـالى: (یَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ لِیُرۡضُوكُمۡ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۤ أَحَقُّ أَن یُرۡضُوهُ إِن كَانُوا۟ مُؤۡمِنِینَ).

 وماكان لبعض من رمى مصر والمصريين بالخروج بهذه الاتفاقية عن الإسلام, ما كان لهؤلاء أن يسارعوا إلى حكم لا يملكون إصداره قال تعالى: (وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِیُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ جَاۤءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُوا۟ ٱللَّهَ تَوَّابا رَّحِیما).

ما كان لهذه القلة من العلماء الذين انساقوا أو سيقوا إلى الحكم بغير ما أنزل الله, ثم انزلقوا إلى السباب دون أن يراجعوا أحكام شريعة الله, ومن غير أن يتثبتوا وزعوا الكفر على المسلمين دون روية أو استظهار لحكم الإسلام, مع أن القرآن علمنا ألا نتقدم على حكم الله فقال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُقَدِّمُوا۟ بَیۡنَ یَدَیِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیم).

نعم لهؤلاء الذين تسرعوا في الحكم دون علم أو عن غرض نتلوا قوله تعالى: (بَلۡ كَذَّبُوا۟ بِمَا لَمۡ یُحِیطُوا۟ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا یَأۡتِهِمۡ تَأۡوِیلُهُۥۚ كَذَلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِینَ).

إن كل مسلم بلغه حكم الله في أي أمر من الأمور, يجب عليه أن يتبعه ولا يحل له أن يتخطاه, بل وعليه أن يعلنه ويعلمه الناس سيما إذا كان من العلماء الذين وكل الله إليهم علم دينه وبيان أحكام شريعته.

إن ربنا سبحانه وتعالى يقول: (وَإِذَا جَاۤءَهُمۡ أَمۡر مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُوا۟ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰۤ أُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ یَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنَ إِلَّا قَلِیلا) ، ويقول: (لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَة لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرا) ولقد رددنا أمر اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وعرضناها على القرآن والسنة فوسعتها أحكامها. قال تعالى: (قُلۡ إِنِّی عَلَىٰ بَیِّنَة مِّن رَّبِّی وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِی مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦۤ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ یَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلۡفَـٰصِلِینَ)

وبعد: فإن الإسلام دين الوحدة, وحدة المعبود ووحدة العبادة ووحدة القبلة, ومن أجل هذا دعا (الله) سبحانه وتعالى إلى الاعتصام بحبله قال تعالى: (وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَاۤء فَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦۤ إِخۡوانا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَة مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ).

فكونوا أيها العلماء دعاة وحدة وإخاء كما أمر (الله), وبصروا الحكام بأوامر الله حتى تجتمع الأمة على كلمة الله لا تفرقها الأهواء, واستمعوا لقول (رسول الإسلام) " لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً, المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله, بحسب المرء من الشر  أن يحقر أخاه المسلم). وهذا أمر الله سبحانه للمسلمين حكاماً وعلماء ومحكومين قال تعالى: (یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُوا۟ ذَاتَ بَیۡنِكُمۡۖ وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ) ، وقال سبحانه: (قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَیِّنَة مِّن رَّبِّی وَرَزَقَنِی مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَناۚ وَمَاۤ أُرِیدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَاۤ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِیدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِیقِیۤ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَیۡهِ أُنِیبُ). وقال جل شأنه:  (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا جَاۤءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرات فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَـٰت فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ یَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّاۤ أَنفَقُوا۟ وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُوا۟ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُوا۟ مَاۤ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡیَسۡـَٔلُوا۟ مَاۤ أَنفَقُوا۟ ذَلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ یَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیم)

وبعد: فإن صلح الحديبية كان خيراً وبركة على الإسلام والمسلمين, فتح الله به قلوباً غلفاً آمنت بالله وبرسوله وانضوت تحت لواء القرآن على بصيرة من الله, وفي طريق عودة (الرسول) صلى الله عليه وسلم  من الحديبية أنزل الله عليه أكرم بشرى (سورة الفتح) قال تعالى: (إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحا مُّبِینا) .

فانظروا أيها العرب والمسلمون كيف كان هذا الصلح فتحاً ونصراً لدين الله ورسوله, وكيف مهد الأرض لانتشار الإسلام, مع أن أصحاب (الرسول) كانوا له من الرافضين وعن تنفيذه من القاعدين, حتى علموا خيره فانصاعوا لأمر الله ورسوله. ونحن في صلحنا المعاصر مع إسرائيل نتفاءل, ونأمل أن يكون فتحاً نسترد به الأرض, ونسترد به العرض, وتعود به القدس مقدسة عزيزة إلى رحاب الإسلام وفي ظل الإسلام.

ج- تحليل مبررات (جاد الحق) لاتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر:

1-      وجوب الاستجابة لطلب العدو للسلام حتى وإن كان المسلمون فى مركز قوة:

وفقاً لما رأينا فى الفصل الأول فإن عقيدة الجهاد تُقِرُ  فى أساسها أن يكون وقف الحرب وإبرام اتفاق مع العدو معمولاً به فقط فى حالة الضعف العسكرى للمسلمين، فوقف إطلاق النار  ما هو إلا هدنة فى وضع لا يكون فيه خيار آخر. غير أن (جاد الحق)  قد قلب الأمور  رأساً على عقب، حيث ذهب إلى أنه وفقاً لما ورد فى الآية الحادية والستين من سورة الأنفال (آية السلام)  فإن السلام هو الأصل وأن الحرب تكون واجبة حال فرضها على المسلمين، أى عندما لا يكون أمامهم خيار آخر. ويذكرنا المنطق الذى ينضوى عليه كلامه هذا بكلام المفكر  العسكرى (كارل بون كلاوزفيتز) الذى يقول " ما الحرب إلا استمرار  للسياسة بأساليب أخرى". ويؤيد هذا المنطق تبرير الحرب كوسيلة لتحقيق نتائج سياسية وليست كهدف فى حد ذاتها. فالشيخ  (جاد الحق)  يرسى بذلك قاعدة دولية معاصرة من خلال استخدامه مفاهيم معاصرة، وذلك فى قوله إن الإسلام يحترم جميع البشر دون تمييز على أساس دينى أو عرقى أو قومى، ويشجع الإسلام- من وجهة نظره- دخول غير المسلمين فى الدين الإسلامى، كما إن رؤيته للسلام تنضوى على مفاهيم معاصرة وشاملة نحو  " معاهدة دفاع مشترك "  و " تعاون  مالى واقتصادى".

  وبناء على تفسير  الشيخ  (جاد الحق)  فإن للجهاد هدفاً واحداً وهو  إدخال غير المسلمين تحت إمرة الإسلام، فإن أصروا على رفضهم وجب على المسلمين الخروج فى حرب (لا خيار فيها)، لذا فإذا ما  أراد العدو -  فى أية لحظة- وقف الحرب وصنع السلام وجب على المسلمين الاستجابة لمطلبه. فالمنطق الذى يبرر هذا الموقف هو  أنه إذا كان المسلمون قادرين على تحقيق نفس الهدف (تنازل العدو أو استسلامه) بالطرق السلمية فما الداعى إذن إلى إراقة دماء المسلمين واستنزاف مواردهم فى الحرب ؟.  فموقف (جاد الحق) يتفق مع موقف أسلافه من التيار (الواقعى) القائم على الرأى القائل بأن الدعوة هى هدف الإسلام، ولأجل نشر  الدين يجب إقامة علاقات سلمية تُمَكِّنُ من الدعاية الدينية. (كما اتضح فى الفصل الثانى).

2- جواز  إبرام اتفاقيات عدم اعتداء مع غير  المسلمين ما دامت فيها منفعة للمسلمين:

 أورد (جاد الحق) الاتفاقيات التى عقدها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين كسوابق تاريخية تؤكد على مبدأ وجوب إبرام اتفاقيات سلام مع غير  المسلمين لجلب المنفعة للمسلمين. وكما سنرى تباعاً، فإن مبدأ المنفعة والصالح الإسلامى عنصر جوهرى فى جميع الفتاوى التى تتناول اتفاقيات السلام مع غير المسلمين، فهو شرط ضرورى ومُلْزِم لإبرام الاتفاقيات، ففى فتوى (جاد الحق) تم التشديد على أن منفعة المسلمين تبرر  إبرام اتفاق عدم الاعتداء غير  المقيد بمدة زمنية محددة، والذى لا يجوز  خرقه من جانب واحد. وقد آثر  الاستشهاد بــ (ابن تيميه) فى موضوع الهدنة غير المقيدة زمنياً، ذلك أن هذا الفقيه الشرعى الذى عاش فى القرن الرابع عشر  يعد مؤسساً لتيار  الإسلام الراديكالى (المتشدد).

والمنفعة الكامنة فى اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر واضحة، ألا وهى استعادة الأراضى الإسلامية، وهى هنا (شبه جزيرة سيناء)، مع توقع إبرام اتفاقيات مستقبلية بين إسرائيل وجيرانها، تلك الاتفاقيات التى تؤدى إلى استعادة أراض أخرى إلى حضن الإسلام بما فيها القدس.

3- صلح الحديبية كسابقة تاريخية للسلام الدائم:

استند (جاد الحق) إلى اتفاق (صلح الحديبية) كسابقة تاريخية لاتفاقيات السلام مع الكفار. وقد استمر  ذلك الصلح لمدة سنتين (ووفقاً لما ذُكر فى الفصل الثالث، فإن هناك خلافاً حول مسألة أى من الطرفين مسئول عن خرقه).

ويرجع  استناد (جاد الحق)  لاتفاق (صلح الحديبية) إلى كونه نمو ذجاً للاتفاقيات التى أبرمها النبى (محمد)صلى الله عليه وسلم، وكذلك لكون مدته عشر سنوات وهى الفترة الأطوال بين جميع الاتفاقيات التى عقدها (النبى)صلى الله عليه وسلم. فوفقاً لما تم تأكيده آنفاً، وعلى العكس من التفسير الذى يذهب إلى أن (صلح الحديبية) يعد نموذجاً لإمكانية خرق اتفاقية السلام، فإن (جاد الحق) يعتبره سابقة تاريخية إيجابية تبرر التوقيع على اتفاقية سلام دائم مع الكفار، وفى هذه الحالة مع إسرائيل. 

ويعود (جاد الحق)  فى الفقرة الأخيرة من الفتوى إلى نتائج صلح الحديبية الذى بشَّر بفتح ونصر عزيز  للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، على الرغم من معارضة صحابة (النبى)صلى الله عليه وسلم لهذا الاتفاق (باعتباره اتفاق دُنِيَّة)، وربط ذلك بالنتائج المتوقعة من الاتفاقية بين مصر وإسرائيل. ولا أعتقد أن مفتى مصر  قد قصد أن يكون حكم الإسرائيليين كحكم أهل مكة التى تم فتحها فى النهاية.  فغاية الأمر  أن (جاد الحق) يتحفظ فى كلامه معرباً عن تفاؤله فى عودة الأرض والقدس " تحت كنف السلام". ولربما كان يرى فى ذلك أيضاً غواية لمعارضى الاتفاقية عَلَّهم يَنْفَضُّونَ عن معارضتهم وينكبون على فكرة إعادة القدس إلى الإسلام. وفضلاً عن ذلك، فقد توارى  هذا الكلام خلف التأكيد المفرط على وجوب احترام الاتفاقيات، حيث أكد (جاد الحق)  أن الإسلام يأمر بتنفيذ الاتفاقيات، ويُقِرُ  بأن خرق الاتفاقية مثله مثل الإثم العظيم الناجم عن ترك الإسلام، تلك المقولة التى شابها  الغموض من خلال ما تم ذكره فى الأسطر السابقة والمتمثلة فى قوله بعدم جواز خرق الاتفاقيات "ما دامت ظروف عقدها قائمة". وخلاصة الأمر، إن (جاد الحق) قد فسر  (صلح الحديبية) كاتفاق سلام لكل أمر  واجب الاحترام، وأن (النبى) لم ينتهكه (بل معسكر  قريش).

4- وجوب إعادة الأرض الإسلامية المحتلة لأهلها المسلمين ولحضن أرض الإسلام:

تفرض الشريعة الإسلامية القتال من أجل الدفاع عن الأرض الإسلامية، وبالأحرى استعادة الأرض التى احتلها العدو  إلى حضن الإسلام. وقد تمسك  (جاد الحق) بضرورة استعادة الأرض الإسلامية المحتلة إلى أهلها المسلمين (أى: شبه جزيرة سيناء) إلى حضن دار الإسلام، حيث كتب يقول إن استعادة الأرض من خلال اتفاقية السلام أفضل من استعادتها عن طريق الحرب.

وقد تصدى (جاد الحق) لجزء من مزاعم أولئك الذين انتقدوا الاتفاقية بين إسرائيل ومصر فى العالم العربى، ممن ذهبوا إلى أن إسرائيل قد التزمت بالانسحاب من شبه جزيرة سيناء، لكنها لا تزال تُحْكِمُ قبضتها على بعض الأراضى التى احتلتها عام 1967، وبناء عليه فالاتفاقية تعطى إسرائيل شرعية فى الاحتلال والعدوان. ويقول رداً على ذلك  إن اتفاقية السلام بين مصر  وإسرائيل لا تمنح إسرائيل شرعية فى احتلال الأراضى الإسلامية، لكن على العكس فهى تحرر أراض محتلة. فهو يتعامل مع الاتفاقية بين إسرائيل ومصر على أنها الأُولى فى سلسلة من الاتفاقيات التى سيتم عقدها، والتى سوف تؤدى إلى استعادة جميع الأراضى التى احتُلت عام 1967 بما فيها القدس الشريف. بالإضافة إلى ذلك، فقد كان على وعى بالفرضيات المحتملة على ضوء الموقف السورى وموقف منظمة التحرير  الفلسطينية وسائر الأطراف المعارضة للاتفاقية. وعلى حد قول مفتى مصر، فإن توقيع مصر على اتفاقية السلام مع إسرائيل لم تُحْرِمْ العرب من إمكانية التوصل إلى سلام مع إسرائيل، لكن على العكس فقد مهدت لهم الطريق لهذا الأمر. فمن الأفضل للمسلمين - وفقاً للوضع الدولى- التوقيع على اتفاقية السلام مع إسرائيل، وفى مثل هذه الحالة يتوجب على الحاكم المسلم  العمل من أجل منفعة المسلمين. ووجه (جاد الحق) نقداً شديدا ً للدول العربية ولسياسة " اللا سلم واللا حرب" التى تنتهجها والتى تُحَمِّلُ مواطنى تلك الدول عبئاً حقيقياً. ولهذا رَأَى أن الدول العربية  قد ضيعت فرصة " الصعود على أجنحة السلام "، وتحقيق منفعة من الاتفاقية الموقعة. ففى رأيه، فإن مصر  ذات التفكير  العملى قد مهدت - بالفعل- الطريق أمام العالم الإسلامى لاستعادة الحقوق والأراضى المحتلة. إن مصر  قد وضعت المصلحة العربية العامة وصالح المسلمين - الذى سيأتى جراء الاتفاقية مع إسرائيل- نصب أعينها، ولم تفعل شيئاً لصالحها الشخصى. فأعين الدول الأخرى قد غفلت عن رؤية المزايا التى ستعود عليها من هذه الاتفاقية، والمنفعة التى يمكن أن تكتسبها من هذا الاتفاق.

5- إسرائيل حقيقة مفروغ منها معترف بها فى اتفاقيات سابقة:

أكد (جاد الحق) أن مصر  لم تستحدث أمراً جديداً بتوقيعها على اتفاقية السلام مع إسرائيل فى مارس 1979، مشيراً  إلى أنه بعد حرب 1948 تم التوقيع على الاتفاقيات الأولى بين الدول العربية وإسرائيل، وهى اتفاقيات وقف إطلاق النار (اتفاقيات رودس 1949) المسماة عربياً بـ (الهدنة) . ويكمن هنا ثمة تطور  آخر فى تفسير  (جاد الحق) وهو  الاعتراف بإسرائيل كحقيقة مفروغ منها، وليست كجزء من دار  الإسلام تعرض لاحتلال واستيطان استعمارى وفقاً للرواية الشائعة فى العالم العربى. وقد ذهب المفتى المصرى (حسن مأمون) إلى ذلك أيضاً عام 1956- كما رأينا فى الفصل السابق، لكن الحديث آنذاك كان عن فترة أخرى سابقة على يونيه 1967. وأشك أن يكون (جاد الحق) كان على علم بفتوى (حسن مأمون) ، لأنه لو توصل إليها لاعتمد عليها، لكنه لم يذكرها مطلقاً. يتضح إذن أن (جاد الحق) يعتبر إسرائيل كياناً شرعياً اكتسب " أهلية شرعية " فى (اتفاقيات رودس 1949) ، تلك الاتفاقيات غير المقيدة بمدة زمنية محددة، والتى تعد من قبيل " الهدنة الأبدية" من الناحية الشرعية. ويضيف (جاد الحق) أنه كذلك بعد حرب 1956 تم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل. لكنّا نلاحظ أنه لم يجانبه الصواب فى هذه النقطة، لأن مصر  قد التزمت عام 1956 أمام الأمم المتحدة ووافقت على دخول قوات دولية إلى سيناء، لكنها لم توقع على اتفاق مباشر مع إسرائيل. وفى حقيقة الأمر، فقد فرضت الدول العظمى على مصر  الصورة التى انتهت بها الحرب والترتيبات التى أُجريت فى أعقابها من إعادة فتح "مضايق تيران" لعبور القطع البحرية الإسرائيلية، ووقف أنشطة الفدائيين من قطاع غزة، وإدخال قوات دولية إلى أراضيها.

6- الوضع الخاص لليهود:

ثمة نقطة أخرى فيما أتى به مفتى مصر  من مبررات، تتمثل فى أنه فى حالة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل  فإن الحديث عن اليهود يكون بوصفهم ذوى وضع خاص فى الإسلام لكونهم " أهل كتاب " وليسوا عبدة أوثان لا خيار معهم سوى الحرب حتى يدخلوا فى دين الإسلام. واستشهد  (جاد الحق)  بآيات من القرآن الكريم تقضى بجواز  معاشرة اليهود والنصارى والزواج منهم والأكل من طعامهم.

من هنا، وقياساً على ذلك فلا مانع من إقامة علاقات سلمية معهم، بيد أن (جاد الحق)  تجاهل تماماً - فى هذا الموضوع - مصادر الشريعة الإسلامية التى تقضى بأنه فى اتفاقيات السلام مع  " أهل الكتاب " يتوجب على الطرف الأخير قبول الحماية الإسلامية ودفع الجزية.

7-  السلام المُبرَم هو من مركز قوة وليس من مركز ضعف:

كان على (جاد الحق) التصدى للتوتر  الداخلى بين مبادىء الشريعة والعناصر الثقافية والنفسية المعاصرة السائدة فى المجتمع الذى يحيا فيه، والمرتبطة بكل ما يتعلق بإمكانية التوقيع على اتفاقية سلام. فكما رأينا بالفعل فيما سبق، فإن الشريعة تجيز  إبرام اتفاق مع العدو  فقط فى حالة ضعف وضع المسلمين، وهو الوضع الذى يكون فيه المسلمون فى حاجة إلى هدنة لاستجماع القوى، أو أن تدفع  تلك الهدنة الضرر عن المسلمين. وكان بإمكان مفتى مصر التمسك بهذه القاعدة الشرعية، فيذهب إلى أنه على الرغم من مفاجأة مصر لإسرائيل بحرب أُديرت على جبهتين، أى من جانب سوريا كذلك فى هضبة الجولان، فإنهما – بالفعل - لم تنجحا فى هزيمة إسرائيل، وأن الوضع الاستراتيجى الإقليمى والدولى لا يسمح  بحسم الموقف ضد إسرائيل فى ساحة القتال. وعلاوة على ذلك، فقد نجحت إسرائيل فى نقل جزء من المعركة إلى داخل الأراضى المصرية. وفى حقيقة الأمر، فإن (جاد الحق) قد أكد على بعض المصادر الشرعية القديمة التى تبرر التوقيع على اتفاق عدم اعتداء فى حالة درء الضرر المحتمل وقوعه على المسلمين حال استمرار الحرب، حتى إنه أشار  إلى أنه بعد حرب اكتوبر 1973 بدا " أن السلام أمر لا مفر منه------ وأن الظروف الدولية التى لا يمكن تجاهلها لا تسمح بالحرب". لكن مفتى مصر  آثر  أن يتخذ موقفاً مغايراً بتأكيده على الكبرياء القومى الذى اقترح رئيس مصر - من خلاله- على إسرائيل مبادرة السلام فى أوج النصر العسكرى المصرى. فالمصريون عدُّوا  النصر نصراً كبيراً وربطوا نتائج الحرب بمعانى قومية وتاريخية واستراتيجية بعيدة المدى.  فمن وجهة نظرهم، كانت حرب 1973 عوضاً عن عار الهزيمة فى حرب 1967.

يبدو  أن مفتى مصر  قد أراد التصدى للنقد الموجه إلى بلده من قبل بعض الدول العربية، مثل إهانة مصر لنفسها أمام إسرائيل، فكان من الأهمية بمكان بالنسبة له الدفاع عن كرامة مصر  أكثر من التمسك بالمبدأ الشرعى القائل بإقرار السلام فى حالة الضعف وعدم القدرة على هزيمة العدو. فثمة كثرة فى المجتمع العربى الإسلامى المعاصر - الذى مَرَّ بفترة طويلة من المذلة تحت وطأة الاحتلال الاستعمارى الذى لا تزال آثاره تخيم على الشرق الأوسط حتى يومنا هذا- يعتبرون التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل قبل حسم المعركة العسكرية معها إقراراً لحالة من الإهانة القومية والدينية. ولهذا السبب كان رئيس مصر  قادراً على توقيع اتفاقية سلام بعد حرب اكتوبر فحسب، والتى بمقتضاها - حسب رؤية المصريين- تم استعادة الكرامة المنتهكة وتحقيق نصر  مُؤَذَّر، وتم قبول الاتفاقية باعتبارها اتفاقية " سلام عزة من مركز  قوة وليس من مركز ضعف وهزيمة" . من هنا آثر  (جاد الحق) مواجهة الحالة النفسية العربية، لذلك  قلب الأوضاع ذاهباً إلى أن مصر  قد أدت دورها بالفعل فيما يتعلق بفريضة "الجهاد"، وما يتبقى لها الآن هو قطف ثمار نصر اكتوبر . إن البعد التبريرى والجدلى معاً يتجليان- بشكل كبير - فى الجزء الأخير  من الفتوى، وهو  الجزء الذى يتوجه فيه  (جاد الحق)  إلى علماء الدين فى الدول العربية مهيباً بهم باسم وحدة المسلمين أن يتحملوا  المسئولية ويؤثروا على حكام دولهم ليؤيدوا الاتفاقية.

وأقر (جاد الحق) فى هذه الفتوى أن بادرة التصالح قد تتأتى من خلال مبادرة أحد أطراف النزاع- كمسئولية مشتركة- وأن الاتفاق يتوجب عقده فى حالة من الندية، وأن يعكس رضا الطرفين. وبذلك فقد تنازل بالفعل عن واحدة من القواعد الشرعية المهمة فى تفسير ه الموائم للعصر  ولمستجدات الأحداث وهى قاعدة (الضرورة) المتمثلة فى دفع ضرر أكبر قد يقع على المسلمين جراء العمل العسكرى، واكتفى بالقاعدة الثانية المعمول بها فى التفسير  المعاصر وهى (المصلحة) أو (منفعة المسلمين) كمبرر شرعى لاتفاقية السلام. وخلاصة القول، فمن وجهة نظرى تعد فتوى (جاد الحق) وثيقة تفسيرية نافذة فيما يتعلق بمشروعية عقد اتفاق سلام دائم مع إسرائيل من وجهة نظر الإسلام . وقد سبقتها فتاوى مصرية عارضت السلام مع إسرائيل باستثناء فتوى الأول من يناير 1956 (المشار إليها فى الفصل الرابع) لمفتى مصر آنذاك  (حسن مأمون) الذى أقر بأن اتفاقية السلام مع إسرائيل أمر ممكن. فها نحن نشهد إذن على أن الفتوى فى المجال السياسى هى أداة لإضفاء شرعية دينية على موقف سياسى، وأنها ترتبط - بطبيعة الحال - بالزمان والمكان والشخصية، وتغير الظروف من شأنه أن يؤدى إلى تغير ها، وربما عند ذات المفتى  (وسوف يتم الحديث عن ذلك تباعاً).

وبعد مرور ست سنوات من صدور فتوى (جاد الحق) عام 1979 واصل الإدلاء بمبرراته حول اتفاقية السلام، مؤكداً جوازها وفقاً للشريعة "بما يتفق وملابسات الساعة"، ورفض رفضاً باتاً الاستراتيجية العربية التى روجت شعار " كل شىء أو لا شىء" مؤكداً على الرؤية الواقعية العملية التى تنتهجها مصر والداعية إلى " الحصول على ما يمكن الحصول عليه" . وبسؤال المفتى السابق (جاد الحق) - فى حوار أجراه فى الثامن من يونيه 1986مع جريدة " التضامن " الصادرة فى لندن- عن موقف الأزهر من اتفاقية "كامب ديفيد" أجاب " لتعلم أن (رسول الله)صلى الله عليه وسلم عقد صلحاً مع اليهود عندما هاجر إلى المدينة، وعندما أَخَلُّوا به عندئذ فقط  قام بمحاربتهم. ووفقاً لذلك، فالحكم فى هذه المسألة (الصلح) يخضع للظروف. وها نحن نرفض الصلح طيلة خمسين عاماً ضاعت فيها فلسطين ولبنان والجولان وغيرها، لأن نهجنا منذ عام 1948 هو الرفض رافعين شعار "ما لم نأخذ كل شىء لن نأخذ شيئاً" بدلاً من " الحصول على ما يمكن الحصول عليه". على أية حال، فعلى حين أننا نعاود الحديث عن "كامب ديفيد" مراراً وتكراراً فلا تزال "الجولان" مفقودة وكذلك الضفة وجزء من لبنان".

وفى اكتوبر  من عام 1993 عاد  البعض فى مصر  ليشيد  برؤية  (جاد الحق)، وذلك بعد التوقيع على اتفاقيات (أوسلو ) ، وبعد عشرين عاماً كاملة على حرب رمضان، حيث كتب (جلال دويدار) - رئيس تحرير  الجريدة المصرية الحكومية (الأخبار) - يقول  " إنه على الرغم من أن نصر  اكتوبر  مهد الطريق لتحرير كامل أرض سيناء، والتوقيع على اتفاقية السلام مع مصر، فقد فشلت معظم الأطراف العربية فى استغلال الزخم السياسى الذى أفرزته الحرب ليتوصلوا إلى سلام عادل وشامل، إذ تحكمت فى حركتهم كراهية متأججة وقصر نظر وغياب للتضامن العربى، فأصروا على أن تتحمل مصر وحدها كل خسائر المواجهة، ورفضوا الانضمام لسفينة السلام، فى الوقت الذى كان بمقدورهم استعادة كافة حقوقهم من خلال المفاوضات التى بدأت فى مؤتمر  (مينا هاوس) عام 1977، حيث استسلم القائمون على الأمر الفلسطينى لضغوط العناصر العربية المضللة، الأمر الذى مَكَّن إسرائيل من مواصلة توسعاتها وتحقيقها مكاسب على الأرض على مدار  ستة وعشرين عاماً على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة. فمما لا شك فيه أن الفلسطينيين ما كانوا فى حاجة لانتفاضة ------ لو أنهم أخذوا بالنصيحة المصرية واستفادوا من تفكير  الرئيس (السادات)  العميق وبُعد نظره، إذ تنبأ بما حدث وما يحدث (الآن)، وذلك من خلال وصفه للمواقف العربية بسياسة "إضاعة الفرص".

 وقد أدى تغير الأوضاع السياسية وتغير  وضع (جاد الحق) ليصبح  أكثر استقلالية بتولية مشيخة الأزهر  إلى تغير  وجهة نظره  فى إسرائيل، حيث أبدى -انطلاقاً من كونه شيخاً للأزهر فى الفترة من (1982- 1996) موقفاً مستقلاً عن مؤسسات الحكم، وبخاصة عن خليفته فى منصب المفتى الشيخ  (محمد سيد طنطاوى)(الذى يشغل الآن منصب شيخ الأزهر)، فقد بدأ (جاد الحق) - بعد الانتفاضة الأولى التى اندلعت فى ديسمبر  1987 -  فى توجيه النقد لإسرائيل ولسياستها، وكان من أوائل المعارضين للتطبيع معها بما يخالف - وبشكل جذرى- فتواه عام 1979 ، كما عارض كسر  المقاطعة العربية لإسرائيل ما دامت تحتل أرضاً عربية، حيث قال - على سبيل المثال-  فى حوار  لجريدة الوفد المصرية عام 1995  " لم يحترم اليهود الاتفاقيات مطلقاً، ولم يكونوا ملتزمين بتعهداتهم" و " إسرائيل خطر على الأمتين العربية والإسلامية" و " اليهود ليسوا بشراً " . هذا وتُحَرِّمُ إحدى فتاوى  (جاد الحق) -  التى أصدرها وهو شيخاً للأزهر- على المسلمين زيارة إسرائيل ما دامت القدس محتلة والمسجد الأقصى أسير  فى أيديهم، وذلك على العكس من موقف المفتى (طنطاوى) الذى ذهب إلى أنه لا مانع من زيارة إسرائيل. وكذلك رفض (جاد  الحق) المشاركة فى مراسم استقبال (عزرا فايتسمان) رئيس إسرائيل أثناء زيارته لمصر عام 1995.

المصدر: מלחמה, שלום ויחסים בינלאומיים באסלאם בן־זמננו: פתוות בנושא שלום עם ישראל, יצחק רייטר, מכון ירושלים לחקר ישראל, תשס"ח, 2008



 

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button